جالاتيا ونرجس

ربما تكون أسطورة «بيغماليون» من أجمل الأمثلة على مطاوعة النصوص القديمة للطرح والإضافة، والجرح والتعديل. فهي في الأصل موروث شفاهي، عانى الكثير من التغيير، إلى أن انتهى على يد الكاتب الروماني أوفيد، قبل ثمانية قرون من ميلاد المسيح تقريباً، إلى ما هو عليه الآن. ورغم أن ما دونه أوفيد بلغ منتهى الأرب، وغاية المأمول، إلا أن الروايات التي أخذت عنه في ما بعد، زادت عليه وأنقصت، ليصبح نصاً معاصراً، يحتمل الكثير من المعاني والدلالات.
وملخص الأسطورة أن نحاتاً شاباً اسمه بيغماليون، عاش في جزيرة قبرص، واشتهر أمره فيها. وقد عرف عنه مقته لنساء الجزيرة، بسبب شيوع الرذيلة بينهن. لكنه كان بفطرته التي جبل عليها مولعاً بالجمال. فقام بنحت تمثال لامرأة جميلة من العاج. ولما أتم عمله، بهره التمثال بحسنه ودقة صنعه. لكنه أدرك أنه محض جماد لا حياة فيه. ولم يكن أمامه سوى أن يتوسل بالإلهة أفروديت، في عيدها الذي يجتمع فيه العشاق. فذهب إليها، حاملاً ثوره، وطلب إليها إسباغ الحياة على منحوتته، فرقت له واستجابت لرجائه. ولما عاد إلى منزله وجد امرأة فاتنة تضج بالحياة تخطر أمامه. وهكذا تحقق حلمه وباتت «جالاتيا» – بالجيم المصرية – زوجة له. وولدت له ابنة أسمياها «بافوس» إحدى مدن قبرص التاريخية. وتنتهي الأسطورة بنهاية سعيدة، ينعم بيغماليون فيها بالدعة والهناء.
لكن برنارد شو حينما كتب مسرحيته بيغماليون عام 1912، جعل بطلتها بائعة متجولة، تقضي نهارها في السوق، وتجري على لسانها كلمات عامية مبتذلة. فقرر بيغماليون أن ينتشلها من الوسط الذي تعيش فيه، ويسهر على تعليمها، لتعدو في ما بعد دوقة ذات حسن وذوق وجمال. فالمهم في الموضوع أن الفنان قادر على تغيير المجتمع بما يملكه من حس جمالي مرهف.
وبعد 30 عاماً كتب توفيق الحكيم مسرحية بنفس الاسم، لكن بطريقة أخرى أكثر إمتاعاً. فقد أدخل شخصية «نرسيس» أو نرجس على المشهد. وكان قد عثر عليه النحات في الغابة وهو صبي صغير. فلما تزوج بيغماليون من جالاتيا، قام نرسيس بإغوائها والهرب معها إلى الغابة. مما عكر صفو حياة صاحبه. وحينما نجحت مساعي الأصدقاء في إرجاع الزوجة إلى بيتها، كان بيغماليون قد عزم على إعادة المرأة إلى طبيعتها السابقة. فذهب متوسلاً بأفروديت أن تفعل ذلك، فاستجابت لطلبه بعد تردد. وعادت جالاتيا من جديد تمثالاً من العاج الصلد!
ولم يلبث أن اعتراه الندم وتراجع عن رغبته. إلا أن «أبولون» إله الفن والحكمة رفض عودة الحياة إلى التمثال. فقد رأى أن دقة الصنعة فيه بلغت المنتهى. ولا تعني عودته للحياة سوى خسارة فادحة للفن. وهكذا أسقط في يد بيغماليون، وظل زمناً يغالب حزنه ووجعه، حتى مات.
لقد كانت المفارقة بين الواقع والمثال ذات مغزى عميق. فالواقع هو الذي يفرض نفسه، ويفوز في النهاية، حتى لو كان المثال وافر الكمال. وحتى لو كان تحدي الآلهة قائماً على قدم وساق. وتبقى القصة مفتوحـة على خيـارات عديـدة ومتنوعة.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة