حسام ميرو
في ساحة أمستردام، عمال بناء مشغولون بترميم الرصيف أمام الكنيسة، بينما الكاهن يقف تحت مظلته ويتابع عملهم.
مررت بقربهم ورميت السلام، فردّ العمال. لكن الكاهن تجاهلني.
يعتبرونني يهودياً، وهذا صحيح، فقد ولدت لأب وأم يهوديين، وباكراً سرقتني الفلسفة إلى أفق مفتوح من الشك، في مدينة لا تغادرها الثلوج إلا بضعة أسابيع، ويعمّ في أيامها الظلام عند الخامسة مساءً على أبعد تقدير.
ناداني شاب في حلقتنا: هيه سبينوزا… تعال نشرب النبيذ.
ليس من عاداتي تجاهل رفاق الحلقة، لكن أمام العامّة.
الأمر مختلف، فقد يتسرب خبر حلقتنا، ولن ننجو من تهمة الهرطقة.
مضيت نحو الفرن. كانت هنالك سيدة، وبعد لحظات دخل رجل، أعرف أنه عشيقها، وربما كنت الوحيد الذي يعرف ذلك في أمستردام، وكاد أن يلقي عليها السلام، وربما لوهلةٍ كاد أن يندفع فيعانقها، لكنه أمسك نفسه، وهي كذلك تجاهلت، بقسماتٍ قاسية، وجوده.
ثلاثتنا، أنا، والمرأة، والرجل العشيق، مضينا نحو وسط الساحة، حيث بدأ قبل قليل شجار بين رجلين، أحدهما غريب عن المدينة، وأثناء فرجتنا على الشجار، طعن أحد سكان أمستردام الرجل الغريب بسكين في ظهره، فصرخت من قلبي: آخ.
كذلك فعلت المرأة، والرجل العشيق، لكن الذين كانوا يتابعون الشجار مضوا إلى أشغالهم، وكأنّ شيئاً لم يحدث، وبقي الرجل الغريب على الأرض.
سحبته نحو بيتي، وساعدني في ذلك المرأة، والرجل العشيق، ومدّدنا الرجل الغريب في سريري، ثم رحت أعالج جرحه.
بعد ثلاثة أيام، تعافى الرجل الغريب، ثم رحل أثناء غيبي، تاركاً دماءه فوق ملاءة سريري، كذكرى من رجل غريب كاد أن يموت في ساحة أمستردام.
كانت الحادثة منذ أكثر من عقد، يوم كنت شاباً، وتذكرتها اليوم، حين توفيت المرأة التي كانت تعشق الرجل الذي تجاهلته في الفرن.
وحده الكاهن قام بتأبينها على عجل، ووحدي كنت الشاهد، بينما الرجل العشيق طرد منذ سنوات من المدينة، وقيل إنه أصبح رجلاً غريباً في مدينة أخرى.
أفكر ملياً في تلك الذكرى التي بقيت في بيتي، ملاءة سرير عليها دماء الغريب.
لست سبينوزا الذي تعرفون، فلم أكتب كتاباً واحداً في الفلسفة، بل سبينوزا الشاهد الوحيد على غياب أمستردام عن دفن امرأة.
والآن، أنا والرجل الغريب، الذي كان الرجل العشيق، في حانة مدينة بعيدة عن أمستردام، أطلب منه أن يطعنني في القلب، لكنه يرفض، ويطلب مني أن أطعنه في القلب فأرفض.
آلام سبينوزا
التعليقات مغلقة