فلسفة الجمال

عند ابن سعيدي المغربي

                                                          د. صباح التميمي

تبدو مسألة فهم الجمال مسألة شائكة ومعقّدة إلى أبعد الحدود، وقد تجلّى هذا التعقيد في تباين الرؤى الفلسفية والنقدية فيها على مرّ العصور؛ ذلك أنّها قضية مركزية تتمتّع بدرجة عالية من الأهمية في الحياة بعامة، والفن والأدب على وجه الخصوص، فهي الغاية القصوى التي يسعى الفنّانُ إلى تحقيقها في نتاجاته شاء أم أبى، وقد أيقظت هذه المسألةُ في ذهن الفلاسفة والنقّاد والمعنيين بالفن والأدب بعامة حزمةَ أسئلةٍ حاولوا الإجابةَ عنها عبر الحقب المختلفة.

وقد سادت في دراسة الجمال – منذ بداية العناية به – نظرتان هما : النظرة المثالية والنظرة الواقعية، تذهب الأولى إلى أن الجمال في حقيقته مثال يتجسّد في الأشياء فيجعلها تبدو جميلة، فالأشياء الجميلة المحسوسة هي في الحقيقة ليست جميلة بالفعل، بل أنها صارت جميلة بالقوّة؛ لأنّ فكرة الجمال قد تجلّت فيها، وأما النظرة الواقعية فتذهب إلى أن الجمال ليس سوى صفة يُضفيها الإنسان على الموجودات التي يحكم عليها بالجمال، وهنا سيكون الجمال قيمة لا وجود لها خارج الذات الإنسانية المُدْرِكَة، ومن ثم فالجمال نسبي يختلف من إنسان إلى آخر؛ وهذا يُفسّر اختلاف آراء المُفكّرين في الكشف عن ماهية (الجميل)، فمنهم من رأى أن الجميل هو النافع كـ(سقراط)، ومنهم من فَصَلَ بين الجمال والمنفعة، كـ(كانت)؛ إذ يرى أنّ الجميل هو ما يسرّنا دون أدنى مصلحة، وهذا ما ذهب إليه (سبنسر وشيلر) اللذان جعلا من الجمال صورة عُليا من صور اللعب واللهو، وأن تأمّل الجمال هو ضربٌ من التسلية، وثمة مذاهب أخرى ترى أن (الجميل) هو المتناسق والمُنسجِم، ويرى أتباع المذهب الرمزي أن الجمال يتجلّى في الشيء الذي يلفّه الغموض، وهناك وآراء أخرى كثيرة لا تسع مساحة المقال لذكرها.

ويبدو لي ان فكرة الجمال وفهمها هي من أهم القضايا الإشكالية العصية على الحل؛ لأنّها – في طبيعتها – مسألة زئبقية لا تتمتّع بالثبات، تتأثّر بثقافة القارئ، ومستوى وعيه، ولكنّك قد تجد نفسكّ – دون شعور منكَ – منحازًا إلى هذا المذهب أو ذاك، فتميل إلى وجهة نظره وتذر غيره؛ لأنّها – ببساطة – تلتقي مع تقاليدك السابقة الموروثة، ومنظومتك الثقافية التي تصدر عنها وتُشكّل (العقل الجمعي) الذي يوجهك، فضلا عن أنّها قد تستجيب لميولك ونزعاتك النفسية الخاصة.

وحين ننتقل لتراثنا النقدي والبلاغي، ونتمعّن فيما وصلنا منه من مصطلحات نقدية وبلاغية، فإنّنا لا نجد أثرا لمصطلح (الجمال) باستعماله الحديث (بعد مراجعة أهم معجمات المصطلحات التراثية النقدية والبلاغية)، بل قد نعثرُ على المفهوم العام والتجليات التطبيقية له، ونلمسُ استعمالهم الاجتماعي للكلمة في حياتهم اليومية (هذا جميل وتلك جميلة…)، ولكنّنا لا نقع على مقاربة فلسفية للمصطلح لاسيما في التراث البلاغي والنقدي، وهذا شأنٌ يخصّ التراث، ولا يحقُّ لنا اليوم أن نطالبه بقراءة من هذا اللون، فلكلّ زمانٍ فلسفته، ولكلّ عصر اهتماماته الخاصة، على أنّنا يُمكن أن نجد ضالتنا في الجانب التطبيقي من نقدهم، فهل عرف النقاد العرب القدماء (النقد الجمالي) في قراءاتهم النقدية؟ تُجيبنا (روز غريب) بالإيجاب، نعم هم عرفوا هذا النقد الذي يتناول تمييز الحسن والقبح في الأثر الفنّي، اعتمادًا على أصول الجمال، لكنّهم عرفوا من هذه الأصول نتفًا متفرّقة في كتبهم النقدية، على الباحث أن يجمع شتاتها من هذه الكتب وحينئذ يُدرك أن ما عرفوه كان حقًّا جليل القدر، بل أن العرب في نقدهم الأدبي قلّما عرضوا لغير (النقد الجمالي)؛ لأنّهم لم يعرفوا أنماط النقد الأخرى أو عرفوا بعضها ولكن بصورة بدائية ظاهرة الضعف.      

ونحن في منظور ابن سعيد المغربي أمام فكرٍ نقدي يسير في ضوء مبادئ (العقل الجمعي) الجمالي المشرقي، الذي كان له أثرٌ راسخ في بناء (النقد الأندلسي) وتأسيسه، على أن الذي يُحسب للرجل إلباسه الأفكار السابقة أثوابًا من الاصطلاحات جديدة، ومسمّيات لافتة للنظر، جعلتها تبدو نادرة الحضور في الدرس النقدي القديم بعامة، كمصطلحي (المُرقِص) و(المُطرِب) فالأوّل عنده يتمثّل بـ ((ما كان مُخْتَرَعاً أو مُوَلَّداً يكادُ يلحقُ بطبقةِ الإختراع، لما يوجدُ فيه من السِّرِّ الذي يُمكِّنُ أزمة القلوب من يديه، ويلقى منها محبةً عليه، وذلك راجعٌ إلى الذوق والحس مغن بالإشارة، عن العبارة))، والثاني يتمثّل بـ(( ما نقص فيه الغوص من درجة الإختراع إلا أن فيه مسحة من الإبتداع))، وهما مصطلحان تأسّسَا على فهم ابن سعيد للجميل في الشعر والنثر، ولا يُمكن فهمها إلاّ بتفكيك مفهوم كلّ واحد منهما على حدة، والوقوف على ما فيه من مصطلحات حاضنة كـ(المُختَرَع والمُوَلَّد والإبتداع)، وهي مصطلحات مركزية في فهم المصطلحين السابقين وتفسيرهما، استدعاهما ابن سعيد من الجهاز الاصطلاحي للنقد المشرقي القديم، فمصطلح (الاختراع) – في النقد المشرقي – يعني خلق المعاني التي لم يسبق إليها والإتيان بما لم يكن منها قطّ، ومصطلح (المُوَلَّد – التوليد) يتلخّص بأن يأخذ الشاعر معنى من شاعر آخر تقدمه ويعمل على الزيادة فيه زيادة تضيف جديدا إلى الأصل، ولا يحمل هذا المصطلح معنى الاختراع غير المسبوق لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقع في باب السرقة أيضا، وأما مصطلح (الابتداع – الإبداع) فيُراد به إتيان الشاعر بالمعنى المُستظرف والذي لم تجرِ العادة بمثله، ومنهم من جعل (الاختراع) للمعنى، و(الابتداع) للفظ، وواضحٌ أن كلّ المصطلحات السابقة تدور حول معنى (الجِدّة) و(الغرابة)، وهو المعيار الذي يضع ابن سعيد استنادا إليه هذا الشعر في طبقة (المُرقِص)، وذاك في طبقة (المُطرِب)، وتنخفض المراتب شيئا فشيئًا لتصل إلى طبقات : (المقبول والمسموع والمتروك)، وقد نظر ابن سعيد في استعماله لهذه المصطلحات الخمسة – كما يرى د.احسان عباس –  إلى الشعر من ناحية (التأثير) وحسب، أي أنّه نظرَ إلى فعل الشعر في نفس المتلقّي وإلى ردّ الفعل لديه حين يتلقّى الشعر، وقصر النظر على هذه الناحية دون سواها، وهذا انحيازٌ إلى جانب (المتعة) في الشعر، ونتيجةً لذلك انحصرت براعة الشعر – في منظور ابن سعيد هذا – في إبراز وجه جديد من القول قائم على الصورة.  

فصفة الإرقاص التي يكتسبها الشعر حين يأتي بالغريب النادر غير المألوف، هي التي بوساطتها يؤثر في نفس المتلقّي فيرقص عند سماعه، وكذلك صفة الإطراب، لكنها في الرّتبة أدنى من الأولى، وإذا نظرنا إلى المسألة من باب الأثر الفنّي فإنّنا نجدُ أن (الرقص) – في حالة تلقي الأغاني مثلا – أقصى غايات الإثارة، ويأتي (الطرب) قبله بمرتبة، وأن الممارِس لهما معًا يشعرُ بـ(متعةٍ) خاصة، فيطربُ للصوت، وحين يشتد به الطرب يعمد للتعبير عن شدّة المتعة إلى هذه الحركات فيؤديها كيفما اتفق، حتى وإن لم يكن يُتقن فن الرقص، فقط ليُعبّر عن مرحه ومتعته الغامرة، وهذا يلتقي مع فلسفة (نيتشه) للرقص، فهو يرى أنّ الرقص ((معرفةٌ مَرِحَة))، وهو – بمختلف أشكاله – تعبيرٌ عن شعور داخلي ينعكس على الجسد الخارجي فيكون هذا الأخير لسان حال ذلك الداخلي، ومن هنا نستطيع أن نقول بأن فلسفة (المُرقص) و(المُطرِب) التي جاء بها ابن سعيد المغربي، تُحيلنا على فهمه النقدي المادي، الذي تجسّد بحصر فائدة (الشعر الجديد) بـ(المتعة)؛ لذلك نجده يستبعد الحكم والأمثال من باب المُرقص والمطرب، وهذا يغرينا أكثر فنذهب إلى القول بأنّ فلسفة ابن سعيد للجمال تتمثّل بمقولة : الجميل هو الغريب ثم الجميل هو الممتع، وهذا يقترب من فهم الفلسفات الحديثة السابقة، كفلسفة كانت للجمال الذي يرى أن الجميل هو الذي يسرّنا، ولا شكّ أن المتعة التي ترافق الرقص هي أقصى حالات السرور والمرح .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة