الشيئية وطقوس الكتابة في “خطوات الكنغر “

يوسف عبود جويعد

تجربة القاص والروائي الراحل محمد علوان جبر، لها نكهة وطعم ومذاق فكري مختلف ، ورؤية فنية عمد على ترسيخها خلال مسيرته الأدبية، لتكون الصفة والميزة التي تميز بها عن أقرانه من الرواة والقصاصين، وتتمثل هذه السمات بطقوس كتابية غاية في الدقة والجهد، إذ أنه في تجواله وترحاله، دائم  التفكير والمراقبة والتمحيص والتدقيق والمتابعة من أجل التقاط مادة خامة تصلح أن تكون عملاً قصصيا أو روائياً، وهو في ذلك رغم وجوده بين الناس، في المقهى، الشارع، السوق، المحافل الادبية، الا أنه يعيش في عالم آخر ، عالم البحث عن التقاطات جديدة تدخل حيز تفكيره وتشغله، لتبدأ معها عملية التكوين والتشكيل لبنية النص، عندها تتداخل تلك المادة مع ما يدور من أفكار لصناعتها في رؤيته الفنية، فتمتزج مع الخيال، مع اللغة السردية الخاصة مع المعالجات الفنية ومع السياقات الصحيحة لبناء عمل فني قصصي أو روائي ، فنجده سرعان ما ينساق الى ما يشاهده أمامه فينشغل فيه ليوظف معه كل المرئيات التي تحيط بهذه المادة المرئية لتدخل متن النص وتنصهر وتتفاعل مع العناصر الملتقطة والمتخيلة والمعالجات الفنية وتظل تدور  داخل مخيلته وافكاره  يقلبها على جوانب عدة من أجل ايصالها الى ما يبتغيه، ويرحل معها يطوف في أرجاءها فيحذف ويضيف ويعالج من أجل اكتمال عملية البناء، وفق ما يحب وما يريد الوصول اليه من تميز، وتمتاز كتابات القاص والروائي محمد علوان جبر بأنها  تجعل المرئيات الشيئية التي يراها حالة مكملة لعملية هذا البناء، ولها دور مهم في التفاعل مع الاحداث، وعندما يحس أن تلك العناصر توحدت وانصهرت في بوتقة واحدة وصارت كتلة قصصية ناضجة، وكأنها ثمرة نضجت وحان قطافها، وعندما تتوحد تلك الرؤية الفنية وتتكامل، حينها ينتقل بنا الى عالم القصة وفق المعالم التي رسم ملامحها والتي تداخلت مع بعضها  كعناصر أساسية في مبنى السرد القصصي بشكل يعطي للنص القصصي هالة خيالية وسحرية غاية في الروعة، وهي تدور في متن النص كتلة ،وأقصد بذلك المرئيات الشيئية، الشخصية ،الاحداث، الزمان ، المكان، الثيمة،بتدفق هائل وكبير  كلها متحدة متوحدة غير منفصلة كما هو الحال في قصة (الطبال):

( تصاعد اللغط ورائحة القهوة والشمس والاجساد دفعة واحدة الى حواسه ، لكنه كان بمنأى عن التواصل معه كان متوحداً مع أشياء غائرة فيه تتداخل النغمة في عينيه وتشظى على أخاديد الوجوه الذي تحجر سمع احداً ينادي عليه كان منهمكاً مع ايقاعه ،تكرر الصوت، توقف وعيناه تتابعان مصدره، )ص 32

أن العملية التنسيقية التي يخوض غمارها القاص محمد علوان جبر ،تعتمد على مخيال خصب يأخذ مساحة كبيرة من حيز تفكيره ليتحول الى شغله الشاغل وهاجس مرن يداعب أفكاره فيعيش القصة في حياته، تكون جزء من الهوس اليومي، وهذه الطقوس الكتابية التي يمارسها القاص في حياته اليومية، تنطبق على كل أعماله، عندما يكون في جبهة القتال، وفي أتون الحروب الحامية، وعندما يسافر بالقطار في رحلة طويلة، وكأنه في ذلك وعندما يلتقط لحظة تصلح أن تكون مادة فأنه ينقلها عبر خياله ضاخا فيها ما يؤهلها للنضوج ً، كما نرى ذلك واضحاً في هذا الوصف الذي تداخلت فيه تلك العناصر التي تحيلنا الى سحر السرد في قصة (تفاحة سقراط):

( كان احساسي بالتعب والخدر يسريان في أوصالي يتسارع ،لمحت سحابة دخان تصاعدت بتراخ من اسفل المقاعد وبدأت تغمر الوجوه وهي تتصاعد ببطء شيء يشبه الرغوة ورائحة نفاذة لأشياء تحترق ، تصعد السحابة وابقى متسمراً على الكرسي ،أمسك الزجاج بأصبعي والصق وجهي به في محاولة لكسر الاختناق ورؤية الأفق المبسوط الذي يسير الى الخلف ، ثمة لغط تصاعد من مؤخرة العربة.)ص 40

إضافة الى هذا فإن القاص ومن خلال تجربته في الحروب كواحد من الجنود الذين اشتركوا فيها وخاضوا غمار عالمها الموحش، حيث شبح الموت والخوف والنيران المشتعلة واصوات الانفجارات والحرمان الغريب، الذي كان يشكل هاجس قلق وحزن لدى المقاتل الذي كان يشتاق الى الاهل والحبيية والاصدقاء والمحلة والناس وحياة الترف، انتقل كل هذا إلى واقع لا إنساني وقاسٍ وظالم، فشكل مساراً آخر من مسارات التجارب التي تصب في تطوير أدوات السرد وعناصره، حيث انضمت  كل هذه التجارب لتكون السياق الفني الذي يتبعه القاص في إعداد النص، حيث نجد لغة السرد في هذه النصوص مركبة بين أكثر من عنصر من العناصر التي تدخل ضمن الرؤية الفنية لهذه اللغة التي تعد من أهم الادوات التي تسهم في إنضاجه، وهي خليط من الواقع والخيال والمؤثرات النفسية التي هي حصيلة التجارب الحياتية المكتسبة لتنتقل الى الواقعية السحرية في اللغة بحد ذاتها، ثم الى النص بشكل شامل، ليصل النص السردي القصصي إلى المتلقي بلون آخر مختلف بسبب هذا التشكيل وهذا التكوين الذي يظهر فيه الجهد الفني بشكل جلي، وبهذا فإننا نتابع مبنى النص، وقد توحدت ادوات السرد وانصهرت واتحدت، لينبثق منها الإيقاع والانسيابية ليشكّل ويكّون هذا التناغم والتوحد الذي ينفرد فيه القاص عن اقرانه من صناع القصة القصيرة، وهكذا نكون مع العالم الساحر الذي لا يمكن أن يصل الى مرحلة النضوج تلك الا بتوفر الادوات سالفة الذكر.

وتجدر الإشارة هنا الى أن المجموعة القصصية ( خطوات الكنغر)للقاص محمد علوان جبر جاءت بمبادرة من الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بطباعة نماذج من قصصه بعد رحيله، وبأشراف من لدن الروائي حنون مجيد امين العام للاتحاد، وبجهود استثنائية من قبل الروائيين شوقي كريم حسن وحميد المختار.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة