في ديوان «جسد تعثّر بالندى»
د. سمير الخليل
ينضم الشاعر «حيدر عبد الخضر» في مجموعته الشعرية (جسد تعثر بالندى)، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد، 2016، إلى المنطق اللاشعري، بالاستناد إلى مقدمات غير مفهومة، فهو يتناول طريقة الاشتغال الحداثي على اللغة ويدفع به إلى ذروة الغموض، والرابط السيميولوجي، بحسب هذا المنطق، هو فقط «رابط لغوي» فليس هناك نسيج خيط واحد، وإنما هناك عدد لا ينتهي من ألاعيب اللغة، ومن الممتع هنا لجوء الشاعر إلى الاستعارة لإيضاح طبيعة معرفة ما بعد الحداثة: يمكن النظر إلى لغتنا كمدينة قديمة، متاهة من الأزقة الضيقة والساحات الصغيرة، ومن المنازل القديمة والحديثة مع إضافات إليها من حقب مختلفة، ويحيط بذلك كله المزيد من الجوامع والمزارات والمراقد الدينية بقبب فيروزية منتظمة وموحدة الطراز.
إن «تذّرر» الاجتماعي (تحوله إلى ذرات مجهرية) إلى شبكات مرنة من «ألعاب اللغة» يفترض أن كلاً منا يمكن أن يلجأ إلى مجموعة مختلفة تماماً من الرموز اعتماداً على الوضع الذي نجد أنفسنا فيه (في النص، داخل النص، في الماحول، في الجوار، أبعد من الهناك… الخ)، وإلى الدرجة التي يقبل بها الشاعر صاحب النص، فالمعرفة هي القوة الرئيسة في الانتاج والقراءة هذه الأيام (وفي كل الأزمان) لأن المشكلة تصبح في تعيين مركز تلك المعرفة حين تكون موزعة بين غيوم عدة من العناصر الدلالية داخل تنافر ألعاب اللغة، حيث أن هناك الخصائص المفتوحة الكامنة في القراءة العادية، حيث القواعد تعقد أو تتحول بغرض تشجيع الحد الأقصى من مرونة القول، وهو يجعل الكثير من التناقضات الظاهرة بين الانفتاح والثوابت التي تحدد بها مجالات اللامنطق ما هو مقبول أو غير مقبول داخل حدودها، وعليه تتولى حقول الأدبية والتأويل والتلقي وآليات التأثير في الرأي العام تحديد ما يجب قوله، وكيف يجب أن يُقال؟ وبطرائق متميزة. لكن الحدود التي تفرضها القراءة على امكانات «تحركات» اللغة لا تتأسس مرة واحة وكفى، بل هي نفسها نتائج متغيرة لاستراتيجيات اللغة داخل القراءة وبدونها. وعلى ذلك يجب أن لا نشيء القراءة بطريقة مبتسرة، وإنما علينا أن نعرف كيف يؤسس الأداء الدقيق لألعاب اللغة، في المقام الأول، لاجروميات اللغات وسلطاتها. وإذا كانت هناك ألعاب لغوية عدة بعدد تنافر عناصرها، فعلينا ساعتذاك أن نعترف أيضاً بأنها لا تسمح بأكثر من ظهور قراءات أشتات ذات حتمية محلية، ولنقرأ النص الآتي:
((سأدلكم على جهة نائية/ هي أقرب ما يكون إلى/ نهر المدينة/ الذي سقط من تقاويم أبنائها/ منذ أن طافت عليه أكف الهاشميين/ ملوحة بالعفة والخلاص)) (ص13 وما بعدها)
فمن يقصد بـ»الهاشميين» ؟ وفي أي مرحلة من التاريخ ؟
مثل هذه «الحتميات المحلية» جرى ويجري فهمها عند آخرين كجماعات مرجعية تتشكل من منتجي ومستهلكي أنواع معينة من المعرفة، من النصوص، وغالباً ما تعمل ضمن سياق إجرائي معين: العصبيات الدينية، الجيشانات الشعبوية المنفلتة، خدمة أجندات أجنبية، وضمن تقسيم عمل ثقافي معين: طائفي، تصفوي، مناطقي، إثني، أو ضمن مواقع معينة: الإقليم، الجوار، جزء من الوطن… الخ، ويسعى الأفراد والجماعات ضمن هذه المجالات إلى استمرار ما يعتبر أنه معرفة صحيحة.
وفي حدود قدرتنا على تعيين مصادر القمع المتعددة في المجتمع، ومراكز المقاومة المتعددة للهيمنة، فإن هذا اللون من التفكير أخذ طريقه إلى السياسات الراديكالية، بل جلب إلى قلب «الدين» نفسه، وهكذا نرى النقد الثقافي يناقش «أزمة الإرهاب العالمية» من خلال فكرة أن الأشكال المتعددة والمحلية والمستقلة للكفاح من أجل الحرية والتي تقوم في عالم ما بعد الحداثة تجعل كل انبعاث لخطابات مهيمنة أمراً غير مشروع تماماً، والنقد الثقافي يبدو هنا، في اعتقادنا، مأخوذاً بالخاصية الأكثر جذباً في فكر ما بعد الحداثة، وهي اهتمامه بالآخر، وسبق لمفكري التنوير العرب منذ بداية القرن العشرين أن نددوا تحديداً بأمبريالية التنوير الحداثي التي تزعم حق الكلام على الآخر (الشعوب المستعمرة، السود والأقليات العرقية، الجماعات الدينية، النساء، الطبقة العاملة) وبصوت أحادي حصراً، وفي عملها بعنوانه المعبّر العريض: نحو صوت مختلف.
وفي السياق نفسه يبدو ممتعاً تتبع الاحتفاء بالآخر و»العوالم الأخرى» في شعريات وسرديات ما بعد الحداثة. ففي إطار تأكيد «الثقافة» على تعددية العوالم التي تتعايش معاً داخل مخيال ما بعد الحداثة، نجد أن مفهوم «اليوتوبيا غير المتجانسة» هو صورة ملائمة تماماً لالتقاط ما تحاول قصائد (جسد تعثر بالندى) إنجازه أو تحقيقه. فمفهوم (اليوتوبيا) غير المتجانسة هو تساكن عدد كبير من العوالم المتشظية الممكنة في «فضاء مستحيل» أو على نحو أبسط، تواجد فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على بعضها الآخر. لا تتوقف الحيوات في هذه الفضاءات طويلاً عند كيفية حلّ أو إيضاح الأسئلة المركزية، إلا أنها ملزمة بالمقابل بالتساؤل عن أي عالم هو هذا الذي نحياه؟ ما العمل حياله؟ وأي «أنا» ستقوم بذلك؟ يمكن العثور على التحوّل هذا نفسه في الكثير من النصوص نقرأ منها: ((أنبياء للشك والندم/ فمنذ أن لطخوا عتباتهم بالنذور/ وهم مدمنون على اللوعة والخسارات/ تنوء البلاد بتفاصيلهم/ وتعلبهم المنافي والجهات/ الألواح تؤرخ أحلامهم الخجولة/ والجدران تنزف ذكرياتهم الباهتة/ سيتذكرهم الرواة ونساء المعابد/ وتشيعهم المزارات والأضرحة/ وستطوف أسماؤهم مع التمائم والتسابيح/ لأنهم وجع الوجود/ وملح الحياة/ وسر الأبدية)) (ص56، 57، 58).
لكن قبول تشظي الأصوات الأخرى والعوالم الأخرى، وتعدديتها، وإصالتها، يطرح مشكلة التواصل الحادة، ومن خلالها أدوات ممارسة السلطة بالتالي، وما يجب إضافته هنا أن الامكانات الجديدة في انتاج المعلومات والمعرفة والأشعار والروايات والقصص وتحليلها ونقلها قد فتنت معظم مفكري ما بعد الحداثة وتركت من ثمّ تأثيراً واضحاً في نتاجاتهم. فهم يصنعون أفكارهم في سياق تقانات التواصل الجديدة، واستناداً إلى فرضيات الانتقال إلى مجتمع «ما بعد صناعي» ذي قاعدة ديمقراطية – مدنية، يجعل صعود الفكر ما بعد الحداثي في قلب ما يراه انتقالاً اجتماعياً وسياسياً دراماتيكياً في لغات التواصل في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة (وليس في المجتمعات المتخلفة التي يطبق عليها كابوس الماضي بتهويماته السرمدية)، وعليه فهو يعاين، ومن قرب، التقانات الجديدة في إيجاد وتوزيع واستخدام تلك المعرفة «كقوة رئيسة في الانتاج» . غير أن المشكلة تبقى، مع ذلك، في أن المعرفة يمكن الآن ترميزها بوسائل عدة، فيما يبدو بعضها أسهل مثالاً من البعض الآخر، وأكثر انسجاماً مع مبدأ التعايش السلمي بين الناس، وأكثر ملاءمة للشروط التقانية والاجتماعية والأخلاقية للتواصل، وأكثر حداثة ومعاصرة وتسامحاً من المزيد من المنائر والصلوات والبخور الأليف و((الطف في بغداد مسبحة عقيق)) (ص82). ((كأننا عصبة بالموت نحتفل)) (ص97). ((وهو متورط بأبجديات الطوائف)) (ص104). (طوابير من التمائم والنذور)) (ص103). ((رأس تيمم صوب مئذنة شهيدة)) (ص117). ((قد عطلت كل المآذن فاستفاق الديك)) (ص120). ((حروب التحرير والمقاومة وتأميم الثروات أخطاء قاتلة)) (ص142). لقد تعثر جسد الشاعر والشعر كثيراً بسبب تمائمه ونذوره وتعاويذه واستخاراته التي لا تنتهي.