هناء السعيد
إننا نختار جحيمنا بإرادتنا ،نختاره لأننا نختار أفعالنا، ولكل اختيار عاقبته..
الجحيم هو الآخرون..
في مسرحية “جلسة سرية” للفيلسوف جان بول سارتر ،تنطلق هذه الصرخة في نهايتها التي لن تنتهي بالنسبة لشخوصها ،إنها تحمل الكثير من الدلالات، تحمل الكثير من المسؤولية والاختيار أيضا.
في غرفة واحدة، يجتمع أبطال “سارتر”، الذين اختاروا عذابهم ، رجل وامرأتان، بين جبن وخيانة وشذوذ يتقلب خلق “سارتر” في سقرهم ، عذابهم صورتهم ، يريدون الهروب من جنايتهم في الأرض على غيرهم ، ولكن الجحيم هو الآخر ،من آذيناهم ، ومن آذونا، إننا لن نهرب من جهنمنا، فقط نختار نوعه، في جحيم سارتر، العذاب نفسي، يعيّر الأبطال بعضهم بذنوبهم فيها إلى الأبد دون توقف.
نظرة الآخر لنا..
إن نظرة الدونية ،بإمكانها أن تحرقنا دون لهب، نظرة اللوم قاتلة، نظرة الشفقة محطمة، إننا طول الوقت نفعل لأجل أن نحصل على نظرة ترينا النعيم ،ولكن أحيانًا يغلبنا نقصنا ، ونتخلى عن إرادتنا، ونمضي بلا اكتراث للنظرة، لا نخجل ولا نلتفت، على أمل أن كل شيء يمكن إصلاحه، يمكن غفرانه وتطهيره ، نود صورة ملائكية، ونعشق الشيطنة ، الإنسان وحده يمكنه أن يكون كل المخلوقات معًا.
الجحيم ” السارتري”، لا يرحم النفوس التي لا تواجه مصيرها التي اختارته بشجاعة ، لكل لذة ثمن، ولكل إيذاء جزاء، ولكل وجود عناء وشقاء.
يكون الآخر جحيمنا..
عندما يقرر سلفًا أننا ناقصات ، ساقطات ، لا يُطهرنا ماء البحر ،فالغواية أكثر أهل النار ،فقط لأنها امرأة ، العلة أنها امرأة.
وعندما نُخلق على ملة لا اختيار لنا فيها، ثم نجد أنفسنا محكوم علينا بالجحيم ،مهما فعلنا من خيرات واحسانات ،فقط لأنها ملة غير مَرضية، في نظر من تحكموا في مصائر البشرية.
وعندما نصدق رجال الدين حين يتحدثون عن فضل إعمال العقل في زيادة الإيمان،لكن تجد عقلك قادك في عرفهم للزندقة.
وعندما تُباع لنا الخلاصات تحت أجمل الشعارات، ثم لا نجد إلا الخيبات.
عندما يُسحرونا بالتاريخ ، ثم نفيق على بؤس الحاضر بسبب تقديسه ، جحيم الآخر الميت.
الآخر هو الجحيم ،عندما يعدك ويمنيك، وفي اللا شيء يُلقيك، في النسيان يلقيك.
وعندما تحب وتخلص، والآخر في كوكب آخر ،يبحث عن حب آخر.
وعندما يُلهيك الآخر حتي يصنع منك قِبلة للتفاهة ،أو يسلبك كل بهجتك فتصبح حائطًا للمبكى.
وعندما تكون وسيلة الآخر لا غايته.
فترتبط، خوفًا من جحيم الوصم بالعنوسة ،فتدخل جحيم مهمة لا تُطيق، تدمر الشريك، الذي قد يكون هاربًا من جحيم الشتات على المقاهي والمطاعم والكافيهات ، فقرر أن يجمع مزايا الكل في واحدة ،هي شريكته الخارقة ، التي سيحرقها لأجل سعادته ، ويستمر العذاب ويورث للنسل المُهمل بفعل.
هيئتنا ، ديننا ،لغتنا ،انتماءنا، رجولتنا، أنوثتنا ،خنوثتنا ..كل ما فينا سيوردنا جحيم الآخر.
بطل “سارتر” كان يمكنه الهرب من جحيمه، إلا أنه اختار البقاء ،ليزين صورته في عيون شركاء الجحيم ، لقد نبهنا “سارتر” لوجودنا المريض، الجميع فيه يختار الجحيم ، حين يختار واقع غير واقعه ، حين يحارب في معركة غير معركته، حين يكون الآخر أول وأخر وكل همه، حين يزيف وعيه، ويهرب من حقيقته.
لا يمكننا إسكات الأفكار ، لكن يمكننا التحكم في سماعها أو لا ، يمكننا اختيار الاستسلام لنوع الجحيم الذي يعرضه الآخر ، جحيم الحب المال الجاه الفكر العقل الجمال السلطة ، فهلاكنا دومًا علي يد الآخر كما قال ابن الفارض (أنتَ القتيلُ بأيِّ منْ أحببتهُ فاخترْ لنفسكَ في الهوى منْ تصطفي).
إن أهوائك حين تفقد سيطرتك عليها ،تغريها عروض الآخر.
فماذا لو خذلنا وخدعنا الآخر؟ إنه مرآتنا التي تَصدق حين نصدق، وتراوغ حين نراوغ.
حين نؤمن بالحرية، فعلينا أن نؤمن معها أن الآخر هو امتحانها ،هو عقبتها، وأن تعرف متى التأقلم معه ، متى تجاوزه، ومتى قطيعته كل هذه اختبارات لن نكون احرارًا إلا بالنجاح فيها.
إننا في الجحيم نكون كما كنا على الارض، الجحيم لن يطهرنا ، لكن يظهرنا.
كما أظهر بشاعة شخوص جحيم “سارتر”، تلك البشاعة التي يسقطون فيها إلى ما لا نهاية.
الجحيم هو الآخرون .. وأنت مرشح للعب دور الآخر كذلك بلا عصمة.
كلًا منا سيتصرف أنه المعذِب والموسوس بالنسبة للآخرين ، هكذا يكون شر “زيجمونت باومان” السائل ،لم يعد الشر حكرًا صلبًا مجمدًا على إبليس وحده، بالتالي لم يعد اللعن الإلهي له وحده، ولا كذلك صلاحيات إتمام لعبة السقوط إبليسية صرفة، سنفعل الشر بأنفسنا، وسنجد له وجه وديع، لكن الحقيقة سوف تنتقم لنفسها يومًا ما.
سواء صدقت بوجود جحيم أخير أو لا، فأنت تحيا في أحد تجلياته الآن.
*عن موقع كوة