«الهروب من نفق مضيء» لجاسم المطير
تقديم الدكتور كاظم حبيب
حين بدأت بمطالعة الكتاب الجديد الذي أنجزه الصديق الكاتب جاسم المطير، لم أستطع التوقف عن القراءة حتى انتهيت منه. فالكتاب يبحث في أحداث وقعت قبل أكثر من أربعة عقود، بعد أن بدأ بعض المناضلين والكتاب يدونون بعض ذكرياتهم أو ما سمعوه عن تلك الأحداث. وفي الغالب الأعم جاءت تلك الكتابات نتيجة سماع البعض من البعض الآخر أو نتيجة إطلاعهم على ما كتبه شخص أو أكثر عن تلك الأحداث دون أن يمتلك ناصية الموقف من خلال التعرف الفعلي على أحداث تلك الفترة والمرارات التي تركتها في نفوس الناس الذين عاشوها يوماً بيوم ولحظة بلحظة. ومن أجل إجلاء الموقف من قبل شخص عاش الأحداث وساهم فيها وعرف جميع المشاركين فيها دون استثناء وتنفس الحرية بسببها، بدأ الأخ المناضل جاسم المطير بكتابة مذكراته عن تلك الأحداث.
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الجديد أن يقدم لنا حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد، حدثاً بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً. عبر في هذه الحلقات بصدق وشفافية عن عشق الإنسان الاستثنائي والمطلق للحرية والحياة الحرة الكريمة، ورغبة الإنسان المناضل الجامحة في مواصلة النضال من أجل تحقيق ما اقتنع به من مبادئ وأهداف وأحلام جميلة كانت باستمرار تدغدغ أحلام وآمال المناضلين على مدى التاريخ. حتى أولئك الذين ارتقوا أعواد المشانق أو ما يسميها البعض «أرجوحة الأبطال» كانوا ينشدون للحياة وليس للموت. كما عبر فيها عن حبه لكل أولئك المناضلين سجناء الفكر والرأي والعقيدة الذين أبوا أن يعيشوا في ظل الظلم والاضطهاد والطغيان السياسي ورفعوا راية الحرية عالياً واستشهد الكثير منهم على هذا الطريق. إنه الحرص على أفعال المناضلين من شيوعيين وغير شيوعيين والأمانة لأفعالهم التي يفترض أن لا تنسى وأن تبقى حية في ذاكرة الأجيال رغم تبدل الأزمان. فمناضل مثل جيفارا في وسط أدغال أمريكا اللاتينية أو مناضل مثل خالد أحمد زكي في أهوار العراق أو شاعر يغرد للحياة والعدالة الاجتماعية والإنسان مثل بابلوا نيرودا في شيلي، وشاعر في طرف آخر من العالم، في آسيا، يعشق الحب والحرية والحياة ويهيم بالإنسان الكادح مثل مظفر النواب، وامرأة مثل أم علي أو العذيبي، يجب أن يبقوا أحياء في ذاكرة الشعوب وفي وجدانهم، فهم وغيرهم من المناضلين والمناضلات قد عبروا بصدق وأمانة عن ولائهم لشعوبهم بل وللإنسان بشكل عام. حين تقرأ الكتاب تشعر بأن الكاتب وهو يتحدث عن الرغبة في الهرب والانطلاق نحو الحرية، كان يخشى في الوقت نفسه على رفاقه من أي حدث يمكن أن يقود إلى عواقب وخيمة، إنها الجرأة في التقدم نحو الفعل، وهو الحذر لصيانة حياة الإنسان وعدم التضحية بأي إنسان.
حياة المناضلين الذين زُجوا في سجون العراق حينذاك وجدت أحد أوجه التعبير عنها والتجسيد الحي لها في الحلقات التي قدمها الصديق الكاتب جاسم المطير حيث تجلت في لوحتين متباينتين، ولكن اللوحتين متجاورتان:
- لوحة تعبر عن جانب العتمة في حياة المجتمع العراقي حيث تُجبر جمهرة خيرة من أفراده أن تقبع في السجون المظلمة، لأنها كانت تطالب الدولة والحكومات المتعاقبة الظالمة بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة والعمل لكل فرد في المجتمع والعدالة الاجتماعية، وتعاني بسبب ذلك من الاضطهاد والقمع والتعذيب والحرمان والمحاربة بالرزق والإبعاد عن الأهل والأقارب من جانب أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية القمعية.
- لوحة أخرى تعبر عن جانب الضوء الذي يتجلى في الصمود البطولي لتلك الجمهرة من البشر الواثقة من نفسها ومن قضيتها العادلة التي أُجبرت على أن تبقى في السجون، ولكنها كانت متعطشة دوماً للحرية والحياة الحرة الكريمة لها وللشعب في آن واحد. وسعت هذه الجمهرة السجينة إلى تحويل تلك السجون وحياة من فيها إلى مدرسة متنوعة لمواصلة التعلم والتأهيل والنضال.
والكتاب الجديد لجاسم المطير يضع أمامنا هذين الجانبين، وإذ نجد في جانب العتمة جمهرة من الحكام وجلاوزتهم وأتباعهم والمنفذين لمخططات الحكم الذي يخدمونه، نجد أيضاً شخصاً أو أكثر، وهو رمز، يقف إلى جانب السجناء ويساعدهم، سواء أكان هذا سجاناً أم طبيباً أم حارساً بسيطاً في گراج، أم رجلاً يكتشف من هم، ولكنه يتغاضى ولا يسلمهم إلى الشرطة في نقطة التفتيش بل يساعدهم على عبور المحنة المحتملة، رغم المخاطر التي يمكن أن تواجهه. وإذ نجد في جانب الضوء جمهرة من المناضلين الشجعان الذين أبوا على أنفسهم أن يبقوا رهائن خلف جدران السجن وأرادوا الانطلاق صوب العمل السياسي في صفوف الحزب الذي ينتسبون إليه، نجد أيضاً من كان منهم عيناً للحكم على السجناء. إن هذا الدرس بليغ في ضرورة عدم التعميم، رغم التباين بين تلك العتمة في أغلبها وذلك الضوء في أغلبه.
أعرف الكثير من الشخصيات النضالية التي كتب عنها جاسم المطير في هذه الحلقات المهمة، التقيت بهم، أو عملت مع بعضهم في فترات مختلفة، أو سمعت عن البعض الآخر منهم. ولهذا فقد نَبَشَ هذا الكتاب في داخلي وحرك الكثير من الذكريات والتداعيات التي تراكم عليها الغبار، ولكنها لم تتلف، بل بقيت حية وشاخصة مرت أمام عيني على شكل شريط سينمائي بالصورة والصوت، بالزمان والمكان، شريط مليء بالحياة المتدفقة بحلوها ومرّها.
، كما كان عضواً في اللجنة الدكتورة نزيهة الدليمي وحسين سلطان، بعد أن كان قد هرب من سجن الحلة، وعبد الأمير عباس. وعبد الأمير سعيد، وكان مرشحاً فيها، وآخرون. كان هذا قبل وقوع انقلاب 17 تموز 1968 وما بعده أيضاً.
إن الحديث عن الماضي يقترن دوماً ولدى كل البشر بالحنين له ولأحداثه، وخاصة كلما امتد بنا العمر وسرنا صوب الشيخوخة. وهو أمر طبيعي وإنساني. ولكني اشعر في الوقت نفسه بأن أن المسؤولية إزاء الأجيال الراهنة والقادمة تستوجب منا، ونحن نروي تلك الأحداث، أن نشير إلى أن الكثير من الأمور قد تغيرت وأن ظروفاً جديدة نشأت في العالم الذي نحن فيه ويفترض أن يتخذ نضالنا مساراً جديداً ووعياً جديداً للماضي والحاضر والمستقبل. هذا لا يعني بأي حال التخلي عن المبادئ التي نثق بصوابها وعدالتها، مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والتنوير الاجتماعي والديني، بل أعني بالضرورة سبل وأساليب التعبير عنها والنضال من أجلها والخطاب السياسي الذي يجسدها والأشكال التنظيمية الملائمة لها. إن الأحداث التي نرويها للناس والطريقة التي نعرض فيها لها أهمية فائقة نتيجة التجارب الغنية التي مر بها المناضلون على العقود السبعة المنصرمة من القرن العشرين.
إن الكتاب الذي أقدمه هو خير شاهد على تلك التجربة الغنية لمناضلين شجعان أحبوا الحياة، وأحبوا الشعب، وأحبوا الوطن، وقدموا الغالي والنفيس في سبيل أن يعيش الشعب حياة حرة وكريمة وسعيدة وف وطن حر ديمقراطي اتحادي مستقل.