بغداد تعود متصدرة

أ . د . علي يوسف الشكري

لم تقف بغداد طوال عمرها المديد في مؤخرة ركب العواصم العربية بل والإسلامية والعالمية ، ولم تجالس إلا الكبار ، لكن صحة الكبير قد تعتل ، ومسيرته قد تتعثر ، ومائدته قد يصيبها الشح ، وعطائه قد يقل ، لكن العافية لا تغادره ، والصحة لا تلبث أن تعود إليه ، فينتفض لنفسه ، وينتصر لنجمه الذي قد يعتقد البعض أنه أفل ، لكن الواقع لا يتعدى الركون إلى الهدوء ، والميل إلى السكون ، والجلوس على دكة الراحة بانتظار استعادة الريادة ، وأخذ زمام القيادة ، والانتصار للتاريخ ، والانتفاض للحاضر ، والإعداد للمستقبل والاقتصاص ممن ظلم ، وتأمر ، وأخر ، وخلف ، وهدر ، وباع ، ودمر …. .
على مر التاريخ لم يحتفظ الكبير من الدول بصدارته ، لكن الصغير كثيراً ما يركن لمؤخرة الركب قانع مقتنع حيث يقف ، مرة لحجمه الذي لا يؤهله غير هذا الموقع ، وتارة بسبب شح خيراته ، وثالثة بسبب شعبه الذي استسلم لدكتاتور جبار راح يتحكم بمقدراته فتحول إلى قطيع تابع ، قانع حيث هو ، خانع لمن ظلم وأضهد وقهر واستبد .
وعلى مدى تاريخها الطويل لم تكن بغداد إلا كبيرة حتى في ظلامتها واحتلالها وسقوطها بيد الجبارين ، إذ لا تلبث أن تنتفض على من احتل وظلم وقهر وأضطهد ، فبغداد كبيرة بتاريخها وجغرافيتها وأصالتها وعمقها وعلمائها وبناتها وادبها وشعرائها وخيراتها وفنها….. حتى غدا أرثها وخزينها ثر لا ينضب ، نعم كثير ما أضطرتها الظروف إلى المهادنة والسكون حتى خشى البعض على غياب ألقها وسقوط نجمها ، لكن من يملك العمق والثروة والتاريخ لا يخشى عليه ، قد يتراجع دوره ، وربما يخفت ضوئه ، واحياناً يتراجع ترتيبه ، لكنه يعود للصدارة وإن حرص الباغضون على تحجيم دوره وتقييدفاعليته وتشويه صورته .
لقد مر العراق بتاريخه الطويل بسلسلة من الانتصارات والإنكسارات والهزائم ، وكان لكل مرحلة ما يميزها لكن أسم بغداد ظلاً عصياً على المنافس والمحتل ، فليس في غير بغداد ما فيها ، فهي في وقت الرخاء متألقة مميزة ، مدينة تنبض بالحياة ، القديم فيها معاصر ، والمعاصر يمتد إلى الماضي ، حاضرها ينبض بالحياة . الشمس تشرق فيها وتغيب في غيرها ، ويقيناً أن حسان بغداد جعلها قبلة المحب الذي راح يقبل عليها لألقها ، ومصدر غيض الباغض إذ لم يمر عصر أو عهد إلا وتآمر اللئماء على بغداد ، كيف لا وفيها الإمام والعالم والأديب والشاعر والفنان ، وفيها الأثر والحاضر والمستقبل ،.
وفي وقت الإنكسار والهزيمة تبقى بغداد عصية على القاهر والمحتل ، تصارع وتناضل وتقاوم وتؤرق وتحث الخطى وتستنتهض الهمم كي تنتصر لتهزم وتقهر وتدك حتى تنتصر . هزمها المغول والسلاجقه والبويهين وقهرها العثمانيين ولم تنجو من القهر البريطاني ومؤخراً الأمريكي ، لكن بغداد كما العهد بها تعود شاخصة قوية زاهية ، قديمة في تاريخها حديثة بأعين من شخصت إليها .
بغداد النصرة والغوث وملجئ المقهور ، بغداد الباحث عن الحرية ، مدينة العلم والطب والعمارة والأرث والمعاصرة ، تأمر عليك الشقيق قبل الغريب ، ومن ناصرتيه وآزرتيه وكنت خير عون له في وقت الشدة والاحتلال ، قاتلتي نيابة عن الشقيق ، ونصرة له ، قدمتي الوفير من الأول من أجل النصرة ، ملأت جثامين شهداءك أرض العباد نصرة ودفاع وتحريراً وذوداً عن العرض ، وفي وقت الشدة وقف الجميع إن لم يكن في مواجهتك فناظراً ومتشفياً وآملاً بالسقوط كي يسطع نجمه ، ولكن بؤساً لهذا البروز الذي ينهض على هزيمة الشقيقة الكبرى ، ودماء أبنائها واموال شعبها ، هو سراب لا يلبث أن يزول حيث تنتصر بغداد لنفسها لتنفض غبار التأمر وتقهر بأصالتها وغيرة أبنائها من أراد بها سواءً
على مدى تاريخ بغداد والحاسد المازوم يشكك بقدرة بغداد ، ومكانة قادتها ، واصالة تاريخها ، وحقيقة مكنتها على لعب دور القطب الجاذب ، المحور المحرك ، القوي القادر على تقريب المتباعدين ، ناسياً أو متناسياً أن بغداد كانت من أوائل العواصم العربية التي أسست لدستور ومجلس أمة وحكومة دستورية ، وهي مؤسس في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الاحياز ، في وقت كانت فيه جل الدول العربية تخضع للاحتلال وتناضل من أجل نيل الاستقلال ، ولم تكن بغداد بعيدة عن مد يد العون والمساعدة والدعم والمناصرة بل والمشاركة احياناً بالرجال قبل المال بقصد التحرير والاستقلال .
وكانت ولما تزل بغداد على موعد مع نصرة فلسطين المحتلة ، بعد أن تنصلت العديد من البلاد العربية عن الدعم والمساندة ، بل راح العديد منها يتسابق من أجل التطبيع خشية من مرور قطار الاستسلام لا السلام .
نعم لقد تراجع دور بغداد بفعل سياسات النظم الشمولية المتعاقبة التي راحت تعادي وتناصب بعض الشقيقات الكراهية حتى وصلت عدوانيتها حد الاحتلال ، فخسرت بغداد الكثير من زهزها بعد تجويع شعبها وقتل أبنائها وتهجير وطنييها وكبت حريات احرارها ، حتى قاطعها الشقيق قبل الصديق والقريب قبل البعيد والحليف قبل الند ، فراحت بغداد معزولة تعاني القطيعة ، فأفل نجمها قسراً حتى ظن البعض أن بغداد لن تعود قوية شامخة ، ويقيناً انه على ظلالة ، فمن ظن ببغداد سوء ، لم يقرأ تاريخها ، ولم يطلع على نكباتها ولم يمعن النظر في نكساتها ، ولم يعرف أن بغداد المنتكسة المنكسرة المعزولة تأبى إلا أن تكون قوية متصدرة قائدة رائدة ، فقد تغيب فيها شمس الحرية وتنتقل منها سارية القيادة ، ويتقدم عليها من كان يقف ورائها محتمياً ، لكنها ما تلبث أن تعود قائدة لا مقودة ، محور لا تابع ، كبيرة لا صغيرة ، ومن قاطعها وصد عنها وتنكر لها يعود نادماً أو متظاهراً الندم لينحني لبغداد أحتراماً وإجلالاً .
لقد شكك الكثير من قاصري النظر ، المتربصين ببغداد ودورها ، الباغضين لعودتها قوية مقتدرة ، شككوا بقدرة بغداد على لعب دور المحور في تقريب وجهات النظر بين المتخاصمين الأشقاء ، والمتباعدين الفرقاء ، بذريعة أن بغداد بحاجة لمن يقف إلى جانبها بعد أن أثخنتها الجراح وتراكم عليها حطام الأعداء ، وأنهكتها سياسات المستبدين وقتال المارقين المهزومين ، رغبة في أن تبقى بغداد أسيرة مقيدة قاصرة ، لكن بغداد تأبى إلا أن تكون رائدة وما حراك البلاد والعباد صوب بغداد إلا دليل على أستعادة العملاقة لدورها وريادتها وقيادتها وصدارتها ، وما تواتر الدعوات لقادتها لزيارة البلاد ما قرب منها وما بعد إلا دليل على عودة بغداد السلام لتمارس دورها في إرساء السلام ، فبغداد تبقى ماضي وحاضر ومستقبل ومن ظن غير ذلك ببغداد أم جاهل أو غافل أو حاسد .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة