(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 2
أ.د. أنعام مهدي علي السلمان
ظل الكيلاني قرابة عشرين يوماً في سورياً ثم عاد مرة اخرى الى القاهرة بعد ان يأس من اتصال احد به وعودته الى العراق ،وعلى الرغم من ان المصادر العراقية لم تشر الى ان الكيلاني قد جاء العراق بل انه وصل دمشق ولما اراد الدخول الى العراق منع ، الا ان السفارة البريطانية في بغداد رفعت تقريرا الى الخارجية البريطانية بتاريخ 24 تموز 1958 اشارت فيه الى ان الكيلاني قد زار العراق بشكل سري لكنه عاد الى دمشق خائب الامل.
بعد عودته الى مصر اخذ يتحرك بنشاط واضحا من خلال اللقاءات الصحفية التي اجريت معه في القاهرة قبل عودته الى العراق ، فقد صرح في احد المقابلات بحرارة “ان العراقيين يشعرون بوجوب اقامة وحدة كاملة مع الجمهورية العربية المتحدة وهذه ستكون نواة للوحدة العربية الشاملة . ان املي عظيم بأن بغداد اليوم هي مثلما كانت دمشق قبل اربعة اشهر .كما التقى الرئيس جمال عبد الناصر بناء على طلبه في 30 اب 1958 وتناول معه الغداء في منزله بمنشية البكري حيث شكره على حسن الضيافة والحفاوة وفي هذا اللقاء ، كما يبدو تبلورت بعض الاتفاقات لدى الطرفين لا سيما وان هذا اللقاء كان الاخير بينهما بعد ان وردت برقية من الاستخبارات العسكرية العراقية في 25 اب الى الملحقية العسكرية في القاهرة تشير الى موافقة الزعيم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف اذ عارض الاول عودته مقترحا تأجيلها لوقت اخر لاعتقاده بان عودة الكيلاني ستقوى العناصر القومية واهداف عبد الناصر بينما يرجع البعض الاخر الاعتراض الذي اظهره قاسم الى ان العناصر القومية هي المسؤولة عن اغتيال ابن عمته المقدم الطيار محمد علي جواد الذي اغتيل مع بكر صدقي في الموصل في 11 اب 1937 ويبدو ان اعتراض عبد الكريم انحصر بشخص الكيلاني لانه قبل عودته اصدرت حكومة الثورة مرسوماً عدت فيه حكومة الدفاع الوطني 1941 هي رائدة ثورة 14 تموز كما اعاد المرسوم جميع الاموال المنقولة وغير المنقولة التي صدرت من المساهمين في حركة مايس .ولكي لا نلقي اللوم على عبد الكريم قاسم برفضه عودة الكيلاني ،فان عبد السلام لم يكن راغباً بعودته ايضا لانه لم يكن يريد لان ينازعه احد في مركزه الاول عند القوميين العرب لا سيما وانه يعلم جيداً الطموح المتأصل في شخصية الكيلاني قبل عودته الى العراق ويبدو ان هذه الافكار هي التي سببت له المشكلات بعد عودته .
تلقى الكيلاني خبر الموافقة على عودته بفرح شديد وفي اعتقادنا انه كان يأمل بتسلم منصب رفيع في البلاد لخدماته السابقة فضلاً عن اشتياقه لبلده الذي ابتعد عنه قسراً سبعة عشر عاماً.
في الثاني من ايلول 1958 وفي الساعة الرابعة والنصف عصراً وصل الكيلاني الى ارض الوطن على متن طائرة قادمة من القاهرة وذلك بعد خمسين يوماً من قيام ثورة 14 تموز ، حيث كان في استقباله ممثلين عن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وهما كل من صبحي عبد الحميد ضابط ركن القيادة العامة ووصفي طاهر مرافق عبد الكريم قاسم .اما الكيلاني فكان يرافقه يحيى ثنيان الذي كان له دور في بث الامل بتوليه منصب رئيس الجمهورية.
في باحة مطار بغداد الدولي تجمع عدد كبير من الناس والقوميين الذين استقبلوا الكيلاني بالحفاوة وهم يهتفون بالوحدة العربية وبحياة الرئيس جمال عبد الناصر . اما الكيلاني فقد نزل من الطائرة وهو يحمل صورة صلاح الدين الصباغ ، كما شارك في استقبال الكيلاني ايضاً محمد صديق شنشل وزير الارشاد رؤوف البحراني ، محمد بهجت الاثريس ،هاني السبعاوي ابن يونس السبعاوي ، فيصل ويعرب ولدي فهمي سعيد ،وفور وصول الكيلاني الى بغداد زار مقبرة الشيخ معروف حيث وضع أكاليل الزهور على قبور شهداء حركة مايس 1941 .ثم زار ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني ، بعدها توجه الى منطقة الصليخ حيث سكن دار نجم الدين السهروردي لمصادرة بيته وجميع ممتلكاته بعد فشل حركة مايس .لم ينتظر الكيلاني طويلاً ففي يوم وصوله ابرق الى الرئيس المصري برقية شكره فيها على رعايته التي احاطه بها وعاهده على المضي في تحقيق الوحدة العربية .كما وجه كلمة الى الشعب العراقي شكره فيها مشيدا في الوقت نفسه بالزعيم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
مما لا شك فيه ان الاستقبال الذي حظى به الكيلاني والبرقية التي ارسلها الى الرئيس المصري قد وصلت اخبارها الى عبد الكريم قاسم من خلال الاجهزة الامنية ، ويبدو ان ذلك ازعج عبد الكريم قاسم لانه وجد في تصرفات الكيلاني تهديداً لنفوذه .ويبدو ان عدم الرضا بعودة الكيلاني لم يقتصر فقط على عبد الكريم وعبد السلام بل على الحكومة البريطانية التي علقت على عودته في 12 ايلول 1958 بتقرير بعثته الى الخارجية البريطانية ذكرت فيه ” اننا نرى الاخبار السيئة بعودة رشيد عالي الى العراق “وتسألت “هل ان السفير البريطاني او القائم بالاعمال في بغداد قد ارسل الينا اي تقرير عن هذا المضمون “. مهما يكن من امر فقد زاره بعد عودته بثلاثة ايام عبد الكريم قاسم في منزل شقيقه كامل الكيلاني واستغرقت الزيارة نصف ساعة وكانت كما يصفها السهروردي زيارة سادها الهدوء ومما يؤسف له لم تتوفر اية معلومات عما دار خلالها .كما زار عبد السلام عارف الكيلاني في اليوم نفسه واستمرت الزيارة لمدة ساعة ،ورد الكيلاني الزيارة لعبد السلام عارف بنفس اليوم حيث التقاه بمقره في وزارة الداخلية وفي اعتقادنا ان ماتم من زيارات من جميع الاطراف كان للمجاملة فقط. والدليل على ذلك ما رواه نجم الدين السهروردي بأن عبد السلام قد التقى به بعد الثورة مباشرة وطلب منه الاتصال بالكيلاني ليبلغه امانية العودة الى العراق ولما استغرب السهروردي من الطلب على اعتبار ضرورة ان تتبنى الحكومة العراقية ذلك اشار اليه عبد السلام بأن هناك بعض الاطراف لا تريد عودته لكنهم يشيرون باصابع الاتهام اليه واضاف “اخبر الناس انني لست ضد عودة رشيد عالي .نحن نريده هو زعيمنا ووالدنا .زهو ابو الثورة” لذا اضطر الى الاتصال به من دمشق طالباً منه العودة . اما الزياره التي قام بها للكيلاني بعد عودة الاخير فقد جاءت بعد الحاح من عدد من الضباط الذين شاركوا في حركة مايس وكانوا مقربين من عبد السلام عاف.وعلى ما يبدو ان الكيلاني قد ادرك موقفهم منه لذلك اشتكى منهم قائلاً” رجال جيشنا هؤلاء ….ماذا يعرفون ؟…انهم لا يستطيعون شيئاً من ابسط القواعد الدبلوماسية …وليس البلد ملكهم الخاص …والاخطار لا تهمهم وحدهم” وهذا يدفعنا الى تأكيد رأينا بعدم وجود انسجام وارتياح بين الكيلاني من جهة وكل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف من جهة اخرى.
لم يضيع الكيلاني وقته سدى وفي قناعاتنا انه اراد العودة الى نشاطه السياسي بقوة يحدوه الامل في الحصول على موقع مميز يتناسب مع مكانته السياسية السابقة دون ان يدرك طموحات الاخرين وتبدل الزمن ،لاسيما بعد ان اظهرت العديد من الشخصيات اهتماماً كبيراً بالكيلاني فقد استقبل ، بعد يوم واحد من زيارة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عرف،رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي وبرفقته عضوي المجلس خالد النقشبندي ومحمد مهدي كبه، كما زار وفد ضم فريقاً من زعماء عشائر الجنوب الذين كان يرتبط معهم بعلاقات وثيقة منذ الثلاثينيات حين كان يشغل منصب وزير الداخلية في حكومة ياسين الهاشمي الثانية . واستقبلا ايضاً سفير الجمهورية العربية المتحدة في العراق وكبار موظفي السفارة حيث تجمع اثناء الزيارة عدد من القوميين امام منزله حيث اخذوا يهتفون للوحدة العربية وحياة جمال عبد الناصر والكيلاني .كما استقبل الكيلاني عدداً من مراسلي الصحف ،فضلاً عن حكمت سليمان احد سياسي العهد الملكي الذي يرتبط معه بعلاقة نسب.
من جانبه زار الكيلاني عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع حيث استغرقت الزيارة خمس عشرة دقيقة وجاءت رداً للزيارة التي قام بها في وقت سابق اما ما دار في اللقاء فلم تتوفر اية معلومات . لكن اللافت للنظر ان الكيلاني قد ركز في زياراته اللاحقة على الشخصيات المنتمية للتيار القومي من هؤلاء رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية ‘طاهر يحيى مدير الشرطة العامة ‘عبد اللطيف الدراجي آمر اللواء العشرين المنقول الى الكلية العسكرية ‘احمد حسن البكر آمر اللواء التاسع عشر في أبي غريب ‘كما رد الزيارة الى الزعيم الركن احمد صالح العبدى رئيس اركان الجيش ووزير المالية محمد حديد، بعد مده من عودته اصبحت داره مكانا تبحث فيه مشكلات البلد و الوضع السياسي فيه ‘وكان كل ذلك يحدث تحت أنظار الحكومة التي بدأت التقارير الاستخبارية ترفع لها عن النشاطات المبكرة للكيلاني لاسيما الانتقادات التي يوجهها الى الوزراء خلال لقاءاته مع شيوخ لعشائر وكان هؤلاء الشيوخ مستائين من الاخبار التي تتوارد عن النية في اصدار حكومة الثورة قانون الإصلاح الزراعي . ويبدو ان اخبار هذه الزيارات قد وصلت الى مسامع عبد الكريم قاسم الذي غضب غضبا شديدا وهذا ما بدا واضحا حينما حضر قاسم الى مديرية الاستخبارات العسكرية في وقت متأخر من مساء يوم7 أيلول 1958 موجها أسئلة الى قياداتها فيما اذا الكيلاني ما يزال يعد نفسه زعيما للامة العربية ،وانه يجب ان يعرف ان وقته قد انتهى ،وان عهد العشائر قد ولى. مما لاشك فيه ان زيارة قاسم الى الاستخبارات كانت ذات دلالة كبيرة في ان جميع تحركات الكيلاني قد اصبحت تراقب بشكل دقيق ومنظم، كما تقدم لنا صورة واضحة عن توجس متبادل لشخصيتين لكل منها طموحاته الخاصة.