رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 52

حوارات مع جرجيس فتح الله*

س: اذن على هذا الاساس استنتج ان الفلسطينيين كان لهم دور كبير في حركة مايس.
اكبر من ان يتسع له الحديث هنا الحاج امين الحسيني مفتي فلسطين بسحنته وسيمائه لا تفرقه عن اي نورديكي بعينيه الزرقاوين وشعره الذهبي لولا الجبة والعمامة، يقول انه عربي الا انه حتما من احفاد الصليبيين الذين حكموا بلاده قرنين من الزمن خلق الانكليز له في فلسطين منصب الافتاء ونصبوه رئيسا للجنة العليا لفلسطين فانقلب عليهم فطاردوه واحالوه الى المحاكم بتهم لا اريد التفصيل فيها فهرب الى لبنان ومن لبنان تم تهريبه الى العراق ليبدو هنا بفضل العقداء الاربعة والسياسيين الامعات وكانه المرجع واليه ينتهي الراي ويقف الكيلاني امامه مستجديا نفوذه في العام 1941 ليصل به الى رئاسة الحكومة مبتلعا كرامته وغطرسة كان للحاج الحسيني في فترة معينة من الزمن السلطان المطلق في تنصيب الوزارات وعزلها والعقداء ينقلون مشيئته الى الوصي فلا يسعه الرفض والسلطان المطلق كما تعلم لا يقف عند حد وهو يتقل صاحبه الى حالة من حالات الجنون فلا يعود يفكر بالصالح الجيد الا عندما يعد كل عمل صالحا كان في نظره جيدا وهذه كانت حالة العقداء الاربعة بزعيمهم صلاح الدين الصباغ وقتذاك وعندما وضع الكيلاني على المحك وطلب منه تطبيق نص المعاهدة العراقية- البريطانية الصريح وجد نفسه ازاء هؤلاء والمفتي عاجزا عن التحكم بقواعد لعبة المعاهدة كما كان يفعل وينجح في السابق.
تمثيلية تأديب الاشوريين في 1933 تتكرر هنا وفي العاصمة بغداد نفسها.
اجتماعات صاخبة مقالات نارية حماسية من رادير بغداد نشاط غير عادي بين ضباط الجيش القوميين ذلك الاجتماع الكبير الذي دعا اليه نادى المثنى (وكان قد صار وكرا للدعاية النازية والرتل الخامس) بمناسبة ذكرى ربع قرن على اعلان الشريف حسين ثورته في الحجاز قالت جريدة البلاد على ما اذكر: ان المفتي الحاج تصدر ذلك الاجتماع على راس لفيف مما دعته التجمع القومي وقالت انه القيت خطاب قومية من بينها كلمة الفلسطيني الاستاذ اكرم زغير بعنوان (ثورة العرب لن تنتهي) مشيرا الى طبيعة الاجتماع الخاصة والى تحث الحلفاء وعودهم المقطوعة للعرب وقيامهم بتجزئة الوطن العربي وتعنتهم الحالي برغم ظروف الحرب بعدم اعطائهم العرب تصريحا او وعدا يضمان حقهم في وحدتهم وحريتهم ثم ناشد العرب استغلال فرصة الحرب لتوحيد الراي وتنظيم الصفوف ورصها لإطلاق صرخة داوية فالامر يتطلب الاقدام والجد والمغامرة وكانت المغامرة القتالة.
حزم الكيلاني ورهطة وامرهم على التعامل مع دول المحور والوثائق الالمانية التي استولى عليها الحلفاء ايدت ذلك وقد ظل الكيلاني فيما بعد بشتم العقداء الاربعة ويعزز الى تصلبهم مع البريطانيين سبب القتال الذي زج فيه الجيش العراقي ومما قال انه كان يعمل احيانا والمسدس مصوب الى صدعة ولما كان يصعب تبين صدقة الكيلاني من كذبة فعلينا بالوقائع تكشف الوثائق الالمانية فضلا عما ذكره مندوب المفتي في كتاب صدر بعيد الخمسينيات ان الحاج المفتي بعث به في اواخر العام 1940 وهو في بغداد الى برلين بوصفه مندوبا عن حركة وهمية لا وجود لها اختراع لها اسم (الحركة القومية العربية)- وكان يرافقه (ناجي شوكت) وزير العدل في حكومة الكيلاني لاستطلاع رأي روما وبرلين في الموقف الذي ستتخذه دول المحور من القضية العربية فلم يكن الجواب مشجعا قط وهو لا يخرج عن نطاق التفاهم الالماني- الايطالي بما سيكون مصير البلاد وعلى اثر هذه الوفادة اصدرت وزارة الخارجية الالمانية تعليمات لسفرائها وقناصلها تمنعهم فيها من البحث مع زعماء العراب البارزين حول مستقبل السياسي الذي تنتويه المانيا للعالم العربي واذا ضويقوا واضطروا الى الجوانب فليلجؤوا الى المواربة والغموض.
ولم يكن صعبا على اي قومي مخلص عاقل ان يدرك بان دولتي المحرر انما تلعبان بالامال المتصلب الذي وقفته حكومة الكيلاني من تطبيق المعاهدة البريطانية- العراقية خدمة للمحور دون تعويض.
وعندما اخطأ الكيلاني النجاح هذه المرة في لعبته المفضلة وحاول الرجوع عجز امام عيفتين: العقداء الاربعة الذين هددوء بالقتل والبريطانيين انفسهم الذين لم يعودوا يرضون باقل من نتيجة الحكم.
س: وحول المعاهدة العراقية البريطانية واللعبة الكيلانية كما وصفتموها الحبل الذي ربط به الكيلاني مستقبله السياسي؟
بالأحرى الحبل الذي كان الكيلاني البهلوان يؤذي فوقه رقصاته اجل حاولها بالسير فوقه من الجهة المعاكسة فسقط ولم يحالفه النجاح هذه المرة وكما قلت اعترضته فيه عقدتان عجز عن تخطيهما: ارادة العقداء الاربعة ومن ورائهم الحاج امين الحسيني وكيل النازية في العراق والارادة البريطانية بالذات في تلك الظروف العصيبة التي كانت لندن تجتازها لم تكن مستعدة لاي مساومة لوم تعد تقبل باقل من ازاحة الكيلاني ورهطة واخراجهم نهائيا من دائرة التعامل السياسي في الشرق الادنى هذه المرة ليست كالمرات السابقة ان الانكليز لا يستطيعون الان ترك الحبل على الغارب للساسة العراقيين وهم الان يتدخلون تدخلا سافرا في شؤون العراق الداخلية بمساندة القسم الاكبر من رجال الطبقة الحاكمة وعلى راسهم الوصي عبدالاله ونوري السعيد وكان هذا في رائي من حسن حظ هذه البلاد فالقوميون العروبيون الذين كان يستقطبهم نادي المثنى في بغداد- وقد وضع حقدهم على النفوذ البريطاني غشاوة على اعينهم- ما كان يهمهم قط خروج العراق من دائرة هذا النفوذ بدخوله دائرة النازية والفاشية فورا.
س: ماذا كان موقف اليسار والديمقراطيين والشيوعيين؟ فهم يشاركون القوميين في معارضتهم النفوذ البريطاني ماذا كان موقفهم من حركة مايس؟
كنت في الصف الثاني من الدراسة في كلية الحقوق وثيق الصلة بتلك القوى اتابع ما يجري على الساحة وقد ابعدت نفسي عن الاجتماعات الصاخبة التي كانت تعقد في ابهاء الكلية واروقتها ومجت نفسي سماع احد اقطاب الحركة (علي محمود الشيخ علي) الذي كان يحاضرنا في قانون العقوبات وقد قبل دروسه الى مناقشات في القومية والسياسة التي يجب اتباعها ازاء المطالب البريطانية بخصوص انزال القطعات العسكرية.
في مبدا الامر صدم هؤلاء الذي ذكرتهم وقفوا موقفا يدعو الى الرثاء حقا اليسار كله بما فيه الشيوعيون بدأوا يميلون الى الكفة القومية المساندة للحركة الحزب الشيوعي الوليد اذ ذاك كان طبعا حزبا امميا يتطلع دائما الى موسكو والكومتون قبل ان يقرر سياسة او اتجاها معينا وهو مع اليسار الماركسي طوال خمس عشرة سنة او عشرين يساير بعنف وشدة الحملة السوفياتية الصادقة والبدئية على الدكتاتورية الفاشية في ايطاليا ثم الدكتاتورية النازية في المانيا ويعتبرهما عدو الماركسية والاشتراكية اللدود فجأة وفي العام 1939 وعلى اثر معاهدة عدم الاعتداء والتعاون الاقتصادي التي وقعها وزير الخارجية الالماني (فون رينتروب) مع وزير الخارجية السوفياتي (فياتسلاف مولوتوف) صدرت اوامر باته بوقف الحملات على النظامين وحكومة الكيلاني التي ساندتها الفئات القومية لم تكن تخفي علاقاتها مع دول المحور هذه هناك الديمقراطيون الدستوريون ورغم قلتهم لا يريدون ان يكونوا اقل حماسة في التنديد باليد البريطانية الثقيلة- من القوميين ولا اقل وطنية ان شتت الدقة ولا اقل عدد للبلاط والطبقة الحاكمة.
هكذا وجدت نفسي في البدء اسفا على اقلام احترمها لاصدقاء اعزة تستبق لتمجيد انقلابي حركة فقرات (لذوالتون ايوب) مقالا بطفح بشرا بقرب زوال الامبراطورية البريطانية مقرونا تحرير العراق من نيرها وكذلك ظهر مقال لعبد الحق فاضل بعين الوتيرة وغيرهما وغيرهما ووقف الحزب الشيوعي موقف حذر يحمد عليه وان كان قال كلة طيبة اولية وربما وردته بعض النذر بهبوب العاصفة فعلم بان هلتر يعد العدة منذ زمن لغزو قلعة الاشتراكية ابدت صحيفتهم كفاح الشعب؟ او ربما الشرارة؟ لا ادري تاييدا مشروطا مشبعا بالتشاؤم للحركة لكن الميزان انقلب فجأة وابتعد معظم الشيوعيين عن ساحة الصخب والصحيح ثم داروا 360 درجة بعد الغزو النازي وبعد القضاء على حركة مايس بحوالي ثلاثة اسابيع فشرعت صحيفة الحزب السرية تكتب المقالات الطوال المؤيدة موقف الوصي والسعيد ثم اشتدت الحماسة بعد توقيع معاهدة التحالف السوفياتي من القوميين وعزلهم عن الجماهير خشية ان يكونوا رتلا خامسا ثم اصدر الحزب اوامر تحذير لنقابات العمال تحظر عليهم القيام باي اضراب او اعتصام او اي عمل من شانه الاخلال او عرقلة المجهود الحربي مهما كانت مطالبهم ملحة ومشروعة.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة