(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم الأول
د. عبد الرضا علي
تنويهٌ لابدَّ منهُ :
كانت جامعةُ الموصل قد تبنَّتْ في نهاية العام 1991م إصدارَ ((موسوعة الموصل الحضاريَّة)) فشكّلتْ لجنةً عليا لها، وبعد اجتماعاتٍ عديدة لهذه اللجنةِ اختارت مجموعةً من المتخصِّصينَ، ووزَّعتْ عليهم مواد الموسوعة الحضاريَّة، وكان من ضمن تلك المواد (( حركة نقد الشعر في الموصل)) وسمَّتْ لها أستاذاً أكاديميَّاً من أبناء المحافظة، وبعد أنْ اكتملتْ موادُّ الموسوعةِ، وتهيَّأتْ مطبعةُ جامعةِ الموصل لتباشرَ مرحلةَ التنفيذِ اعتذر من كان قد كُلِّفَ بكتابة مادَّة ((حركة نقد الشعر)) لأسبابٍ شخصيَّة، فكان للجنة أن تبحثَ عن بديلٍ يستطيعُ إنجازَ التكليفِ بأسرعِ وقتٍ ممكن، فوقع الاختيارُ على كاتب هذه السطور، فأسرع الخطى( وهو سعيدٌ) مستجيباً، فكان لا ينامُ من الليل إلا قليلاً، وحرصَ أن يُنجزَ التكليفَ ضمن إطار مدَّتهِ، وحين انتهى منه كتابةً ارتضته اللجنةُ، بعد أن أحالته إلى خبيرٍ علميٍّ، وتمَّ دفعُهُ لمطبعةِ جامعة الموصل ضمن مواد المجلَّدِ الخامس (الأخير) من الموسوعة، وبعد قيامهِ بمراجعة المطبوعِ ((تصحيحِ البروفات)) طرق سمعهُ أنَّ بعضَ أعضاء المنظَّمة السريَّة من أزلامِ جمهوريَّة الخوفِ ممَّن كانوا مسؤولين عن السلامةِ الفكريَّة قرّروا حذف دراسته، لكون القسم الثاني منها قد عالجَ اتجاهاتٍ نقديَّةً لم تكنْ المنظَّمةُ راغبةً في السماح بنشرها، وعندها اضطرَّ إلى تقديمِ مذكَّرةٍ تفصيليَّة إلى رئيس الجامعة(حينذاك) الدكتور عبد الإله الخشَّاب، وأعلمه أنَّ الخبير العلميَّ كان قد أجاز المادَّة، وأنَّ البحثَ موضوعيٌّ، وكُتبَ بحياديةٍ علميَّةٍ، ونتائجه سليمة، ثمَّ طلبَ منه أن يتدخَّلَ شخصيَّاً، وإلا فهوَ مزمعٌ على نقلِ شكواهُ هذه إلى الصحافة الأدبيَّة.
وبعد مرورِ أيامٍ قليلة أعلمَهُ بعضهم، أنَّ القسم الأوّل من المادَّة الذي جرى فيه تأصيل القولِ في نشأةِ الحركةِ النقديّة في الموصل سيتم نشرُه، أمَّا القسم الثاني منه ((الاتجاهات)) ، فقد جرى حذفه، وعليهِ أنْ يسكتَ ((وقد أُعذِرَ من أنذر))، فسكتَ، وتمَّ نشرُ القسمِ الأول في المجلَّدِ الخامس من موسوعة الموصل الحضاريَّة التي تمَّ طبعها في مطابع جامعة الموصل العام 1992م.
وها هو اليوم يُعيدُ نشر الدراسة كاملةً ((بقسميها)) فقد عثرَ على مسوّدتها بين طيَّات كُتبهِ القديمةِ بعد مضيِّ أكثر من ربعِ قرنٍ على إنجازها، لأنَّهُ كانَ قد انتهى من كتابتها في 21/1/1992م، وكأنَّ الزمنَ أراد أن يسعدهُ في هذه الأيام المباركة التي عادتْ فيها أمُّ الربيعين إلى أحضانِ الوطنِ العزيز؛ ليُقدِّمَ للموصلِ، ومبدعيها، وجامعتِها العتيدةِ ما كان لها من أبجديَّةٍ فاعلة في منطلقات حركة نقدِ الشعرِ، واتجاهاتها، مسجِّلاً عظيمَ امتنانهِ لمن أعانهُ على إنجازِ هذه الدراسة.
مقدمة:
النقدُ الأدبيُّ جهدٌ إنسانيّ ، يرقى إلى مصافِ الإبداع إن كان يصدرُ عن نفسٍ تتجلى فيها الموهبةُ والاكتسابُ دربةً وممارسةً ، وقد حاولتْ هذه الدراسةُ أنْ تؤصلَ القولَ في هذا الجهدِ الذي أسهم فيهِ أُناسٌ عايشوا الهمَّ النقديَّ في مدينة الموصلِ، لاسيما في حركة نقدِ الشعر في الحقبةِ المعاصرة من خلالِ استقراءِ معظمِ ما نُشرَ من كتاباتٍ نقديةٍ في الصحفِ والمجلاتِ في مرحلة النشأةِ ، والوقوف على معظمِ ما نُشرَ من كتبٍ ودراساتٍ في مرحلةِ النضجِ ، وتوصيف مفردات منهجِها النقديِّ ، وفرز اتجاهاتِها الفنيةِ ، وعرضِ معاييرها النقدية ، ومراجعة نتائجِها التي توصلتْ إليها ، وتسمية روّادِ هذه الحركة ، والإشارة إلى ما يصدرون عنه من اتجاهات.
وهذه المحاولةُ لم تكن خلواً من المعاناة التي عايشت الهمَّ النقديَّ حقيقةً ، واجتهدتْ في دراستهِ وتوصيفهِ ، وعرضِ نتائجه . غير أن تلك المعاناة كان يذللها أصحابُ المواقفِ العلميةِ الكريمةِ الذين لم يبخلوا على كاتب هذه الدراسة بمصادرهم ومراجعهم ، أو بما يملكونه من صحفٍ ومجلاتٍ ،وهم كثرٌ ، فلهم من الباحثِ محبتهُ وعرفانهُ ، راجياً من الله جلَّتْ قدرته أن يكون قد وفَّقه في انجازهِ هذا بعض توفيقه ، منبهاً إلى أنَّ بعضَ الأسماءِ قد تردُ في هذا البحثِ في أكثرَ من موضعٍ، وذلك تابع لكتاباتِها وإنجازاتها ، فقد يكون الناقدُ أنجزَ كتابين ، كان في الأول منهما انطباعياً ، في حين كان الثاني تحليلياً ، ولذلك فإنَّ بعضَ الأسماء كانت في مرحلةِ النشأةِ غيرها في مرحلةِ النضج ، فوجب مراعاةُ ذلك ، لأنّ دراسةَ المنجز مرحلياً تقتضي الركونَ لهذه التفريعاتِ المنهجيةِ.
*******
صحبتْ العمليةُ النقدية الشعرَ قبل غيرهِ من الفنون ، فارتبطَ بها وجوديّاً ، وإنْ بدا قبلها ولادةً …، فهي بداءةً صاحبتِ الإبداعَ ، وارتبطت بهِ ، قبل أن تنفصلَ عنه نهايةً .
وتوضيحاً نقول : إذا كان صانعُ الشعرِ هو نفسه صانع النقد حين تولّى بنفسه تقويم الإبداع راضياً ، أم ساخطاً من غير تعليل(¹) في مرحلةِ طفولةِ النقد ، فأنَّ صانعَ النقدِ في مرحلة نضجهِ قد انفصلَ عن الشاعرِ حين علَّلَ رأيه ، ودلَّ عليهِ بالشرح والتحليل ، ولم يكنْ ممكناً من غيرِ أن يرتقي سلالمَ الثقافةِ والخبرة ، وما كان في دائرتيها .
ولمّا كانت مهمةُ النقدِ تكمنُ في خدمةِ أطراف العمليةِ النقديةِ برمتها المتمثلةِ بالقارئ ، والمبدعِ ، والأثرِ الإبداعيّ ، فإنَّ نقدَ الشعر يُعد أكثرَ التصاقاً بهذه المهمة من غيره ، لذلك فانّ دراستنا هذه ستحاول أن تؤصِّلَ القولَ في حركةِ نقد الشعر في الموصل على وجهٍ عام ، وتبيِّن أثرها على أطراف العملية النقدية ، سواء أكانت منصبَّةً على المناقشات التي أفرزتها كتبٌ خُصّصتْ لنقد الشعر والشعراء من القدامى والمحدثين ، وهو ما يدخل ضمن باب نقد النقد ، أم كانت منصبةً على نقد النصِّ الإبداعيِّ ( الشعر ) وتقويمه معيارياً ، أم كانت تدور في التنظير النقديِّ الذي يعرضُ الفكرَ النقديَّ للناقد ، أو جهده المتميز ، أو منهجه الذي يصدره عن دراية.
وتحقيقاً لكشفِ أسرارِ حركةِ نقد الشعر في الموصل في الحقبة المعاصرة ، وصولاً إلى تثبيت ملامحها عبر مراحل تكوينها : ولادةً ونضجاً ، رأينا أن يكون منهجُنا على وفقِ التفريعاتِ التالية :
1 ـ النشأةُ
(( حركةُ نقدِ الشعر في الصحافةِ الموصليّةِ وغيرها))
كانت بداءةُ حركةِ نقدِ الشعرِ في الموصلِ في العصر الحديث قد ارتبطتْ ارتباطاً وثيقاً بنشوءِ الصحفِ والمجلاتِ التي صدرت في المدينة ، وأسهمتْ إسهاماً فعالاً في تكوينِ ملامح عامّة لحركةٍ نقديةٍ في جميعِ مجالاتِ الإبداع الفنيِّ ، والدراسات الإنسانية المختلفة ، ولما كنّا بصددِ نقدِ الشعرِ ليس غير، فإنَّ هذه الدراسة ستحاولُ الوصولَ إلى تلك الملامحِ من خلال استقراءِ الأفكارِ النقديَّةِ لما نُشر في تلك الصحفِ والمجلات من مناقشات جادّة ، أو دراسات حصيفة ، أو عروض ناقدة لدواوين شعرية عديدة ، سواء أكانت لشعراء من العراق ، أم من الأقطار الأُخرى.
إنَّ مهمةَ الوصولِ إلى تلك الملامحِ ليست سهلةً إذا ما عرفنا كثرة المجلات والصحف التي شاركت في تكوين الوعي النقديّ ، ثمّ بشَّرتْ بتلك الأسماء التي رسمتْ تلك الملامح ، ولعلَّ أحداً لا يجادلُ في أنَّ مدينة فيها مجلات مثل : ((المجلة)) و ((الجزيرة)) وصحف كثيرة مثل : ((الجداول)) و ((فتى العرب)) و ((الروافد)) و ((الراية)) و ((العاصفة)) و ((المثال)) و ((وحي القلم)) و ((الفنار)) و ((صدى الروافد)) و ((الشعلة الرياضية)) و ((الواقع)) و ((الحدباء)) وغيرها ، لا تسهم فقط على نحوٍ أكيدٍ في بناءِ الإنسان ثقافياً، ومعرفيَّاً، وحضارياً ، بل إنها ستجعلُ من إشعاعها الثقافي مناراً لا للقريبين إليها حسب ، إنَّما للبعيدين عنها أيضاً ، فكيف الحال إذن في جانب واحد هو من صميمِ الأدبِ الوصفيِّ ؟!
لقد وجدتْ هذهِ الدراسة بعد الفحصِ أنّ تلك البداءاتِ النقديةَ تمثَّلتْ بالتالي :