أوروبا بين ترامب والرئيس الصيني

زكي العايدي

انتهى أحدث مؤتمر وزاري لمنظمة التجارة العالمية، والذي عُقِد في ديسمبر/كانون الأول في بوينس آيرس في الأرجنتين، إلى الإخفاق التام. فعلى الرغم من أجندته المحدودة، لم يتمكن المشاركون في المؤتمر من إصدار بيان مشترك. ولكن لم تكن هذه النتيجة مخيبة لآمال الجميع: فقد التزمت الصين الصمت الدبلوماسي، في حين بدت الولايات المتحدة وكأنها تحتفل بفشل الاجتماع. وهي أخبار سيئة لأوروبا، التي كانت بمفردها تقريبا في التعبير عن امتعاضها.
كثيرا ما يشار إلى أن الاتحاد الأوروبي، في مواجهة نزوع ترمب إلى فرض تدابير الحماية التي تتسم بضيق الأفق، لديه الفرصة لتولي دور قيادي دولي أكبر، في حين يعمل على تعزيز موقفه في التجارة العالمية. والواقع أن اتفاق التجارة الحرة الموقع مؤخرا مع اليابان يُعطي الاتحاد الأوروبي ميزة واضحة على الولايات المتحدة في مجال الزراعة، ومن الممكن أن يخلف تعزيز العلاقات التجارية مع المكسيك تأثيرا مماثلا، مع اتجاه الولايات المتحدة إلى إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية.
يقترح بعض المراقبين أن أوروبا ينبغي لها، إن كانت راغبة في تعزيز موقفها بشكل أكبر، أن تتعاون مع الصين، التي حاولت مؤخرا، على الرغم من تحفظها في مؤتمر منظمة التجارة العالمية، إظهار نفسها بوصفها دولة داعمة للتعددية. وقد تشكل الشراكة بين الصين والاتحاد الأوروبي قوة عاتية للتعويض عن التأثير السلبي الذي تخلفه أميركا على التجارة والتعاون الدوليين.
غير أن مثل هذه الشراكة بعيدة عن كل البعد عن كونها مؤكدة. صحيح أن أوروبا والصين تميلان إلى التقارب في ما يتصل بالرؤية الشاملة للعولمة والتعددية. ولكن في حين تدعم أوروبا نوعا من “التعددية الهجومية” التي تسعى إلى تعزيز القواعد التي تتبناها المؤسسات القائمة وآليات الإنفاذ، فإن الصين تقاوم أي تغيير للمعايير القائمة، وخاصة إذا تسبب ذلك التغيير في تعزيز إنفاذ القواعد التي ربما تقيد قدرتها على تعظيم المزايا التي تتمتع بها.
الواقع أن رغبة أوروبا في إرغام الصين على الالتزام بقواعد مشتركة تساعد في التوفيق بشكل أوثق بين مصالحها ومصالح الولايات المتحدة، التي تتقاسم معها العديد من نفس المظالم، من استمرار دعم الصين لمؤسسات خاصة إلى استمرارها في إقامة الحواجز التي تحول دون القدرة على الوصول إلى السوق. ووفقا لدراسة حديثة، فإن الحواجز التي أقامتها الصين مؤخرا أثرت بشكل كبير على نمو صادرات الاتحاد الأوروبي.
لكن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يحملان نفس الرؤية حول كيفية معالجة هذه المظالم. ففي محاولة للحد من إساءة استخدام الصين لقواعد منظمة التجارة العالمية، يريد قادة أوروبا أن يمتلكوا القدرة على التفاوض على قواعد جديدة وأكثر وضوحا، إما من خلال إطار اتفاق الاستثمار الثنائي أو عن طريق اتفاق متعدد الأطراف بشأن المشتريات العامة.
ولا يريد ترمب إصلاح النظام؛ بل يريد إغراقه. وفي ظل المساعي التي يبذلها ترمب لاستخدام الاتفاقيات الثنائية لضمان خفض العجز التجاري الأميركي، لا يمكننا أن نستبعد بالكامل احتمال انسحاب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية ــ وهو السيناريو الكابوس للاتحاد الأوروبي، الذي يدعو إلى قواعد مشتركة وليس استخدام القوة.
كان باراك أوباما، سلف ترمب، لديه حل خاص. ويتلخص ذلك الحل في الاستفادة من قدرة الأطر التعددية الجديدة ــ الشراكة عبر المحيط الهادئ مع آسيا، وشراكة الاستثمار والتجارة عبر الأطلسي مع الاتحاد الأوروبي ــ على تضييق حيز المناورة المتاح للصين. ومع نجاح هذه الأطر في جلب التقارب التنظيمي، يُصبِح بوسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديد معايير الاقتصاد العالمي الجديد الناشئ، وإرغام الصين على قبول هذه المعايير أو التخلف عن الركب.
لكن هذا المشروع تقوض الآن على نحو مهلك. ذلك أن الجهود التي بذلها أوباما لإتمام الاتفاقيتين قبل نهاية رئاسته، وإن كانت مفهومة، عملت على توليد مخاوف جدية بشأن التسرع. فقد أدرك الأوروبيون أن تحقيق التقارب التنظيمي التام بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد يستغرق عشر سنوات على الأقل في واقع الأمر. وعلى هذا فقد بدأ القادة الأوروبيون، تحت ضغوط من مواطنيهم، يعربون عن قلقهم إزاء ما تفتقر إليه شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي عندما يتعلق الأمر بالتنظيمات البيئية والصحية والشفافية على سبيل المثال.
ونظرا لمصلحة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المشتركة في التقارب التنظيمي، وخاصة لتعزيز موقفهما في مواجهة الصين، يتعين عليهما في نهاية المطاف أن يستأنفا التعاون لتحقيق هذه الغاية. ولكن ما دام ترمب في السلطة يناصر التبادلية الثنائية على التعددية فمن المرجح أن تكون مثل هذه الجهود في حكم المستحيل.
غير أن أميركا في عهد ترمب ستواصل في الأرجح استغلال نفوذها التجاري البعيد المدى لتأمين مكاسب استراتيجية أو سياسية. وعلى هذه الجبهة نجد أن أوروبا في وضع غير موات إلى حد كبير. فالاتحاد الأوروبي ليس دولة، وهو لا يتحدث في الشؤون الدولية بصوت واحد. وليس من المستبعد أن يفضل الصينيون، الذين يتحدثون لغة الواقعية السياسية بطلاقة، تلبية المطالب الخاصة التي يعرضها الأميركيون، وليس الشروط المتعددة الأطراف التي يفرضها الأوروبيون.
وفي هذا السياق، لابد أن تكون الأولوية القصوى في الاتحاد الأوروبي توحيد مواقف الدول الأعضاء، بهدف التغلب على الحواجز التي أقامتها الولايات المتحدة وخلق أنظمة مشتركة لتقييد الصين. بيد أن القول أسهل من الفعل. فالآن، تقاوم دول عديدة في الاتحاد الأوروبي فرض أي قيود تجارية، سواء كان ذلك راجعا إلى التزام مفترض بمثل اقتصادية ليبرالية أو الخوف من تعريض مصالحها للخطر في الصين، ولنقل من خلال إنشاء آلية تشمل عموم الاتحاد الأوروبي لإدارة الاستثمار الأجنبي.
بيد أن ظهور حكومات “غير ليبرالية” في أوروبا الوسطى والشرقية يؤدي إلى تعقيد الأمور للاتحاد الأوروبي. فهذه الحكومات ليست لديها مصلحة في أي شكل من أشكال التعددية. لأنها تتبنى منظورا ضيقا لمصالحها. فهي كثيرا ما تبدو مفتونة بمنطق الواقعية السياسية الذي يتبناه ترمب، والرئيس الصيني شي جين بينج، والرئيس الروسي فلاديمير بوتن.
وعلاوة على ذلك، قد يأتي سعي هذه الدول إلى تحقيق مصالحها التجارية على حساب قواعد المشتريات في الاتحاد الأوروبي. وهي ليست وحدها داخل الاتحاد الأوروبي. فقد قبلت اليونان، على سبيل المثال، كميات ضخمة من الاستثمار الصيني. ثم رفض الاتحاد الأوروبي ذِكر الصين صراحة في قرار بشأن النزاع في بحر الصين الجنوبي.
من المؤكد أن الدول الأوروبية ليست مخطئة في الترحيب بالاستثمار الصيني. ولكن ينبغي للصين أن تعاملها بالمثل، فتستقبل الاستثمار الأوروبي في الصين بقدر أكبر من الترحيب. ولهذا السبب، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يعمل مع الصين على إتمام معاهدة الاستثمار الثنائية التي ظل الطرفان يتفاوضان عليها لسنوات، مع إحراز تقدم محدود. وينبغي لهذه المعاهدة أن تعتمد على قواعد متبادلة، بما في ذلك تفكيك الحواجز التي تحول دون دخول سوق الصين.
والآن يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدفع بالتعددية الهجومية. ولكن ما لم يحتضن الاتحاد الأوروبي بالكامل هذه القضية، فإن أوروبا ــ الواقعة بين سندان الصين التي تتبنى تفسيرا متحفظا للغاية ولكن عفا عليه الزمن للتعددية، ومطرقة ترمب الذي يريد التخلص تماما من التعددية ــ تجازف بالتحول إلى ضحية.
زكي العايدي أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس (Sciences Po)، وكان مستشارا لرئيس الوزراء الفرنسي السابق مانويل فالس.

بروجيكت سنديكيت، 2018.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة