محمد زكي ابراهيم
يبدو أن نزعة التمرد قد خمدت جذوتها في بلادنا منذ قرون طويلة، حتى بتنا نؤثر السلامة على المغامرة، والدعة على ركوب الأخطار. وقد دخل في روعنا أن هذا السلوك هو السبيل المثلى لحياة جميلة هانئة لا جلبة فيها ولا شقاق ولا نفاق.
ولكن الحقيقة أننا تحولنا منذ ذلك الحين إلى هدف للغزاة، الساعين إلى الثروة والمجد والنفوذ. وتزامن هذا مع هبوط أسهمنا في صنع الحوادث وبناء الحضارات، بسقوط غرناطة عام 1492 للميلاد أو بعدها بأشهر قليلة.
حينما توجه كريستوفر كولومبس لاكتشاف ممر جديد للهند في ذلك العام، كان هدفه الرئيس، وهو الكاثوليكي المتعصب، النأي عن الطريق البحرية التي يهيمن عليها المحمديون! ففي ذلك الحين كان المغامرون العرب يذرعون البحار جيئة وذهاباً، لنقل البضائع بين الشرق والغرب. ويحتكرون المعرفة المطلوبة فيها.
وقد تراجعت الرغبة في ركوب الأخطار إلى أدنى مستوى لها في ما بعد. حتى بات العراقيون يجهلون أن لديهم مواطنين يعيشون بالقرب منهم في مناطق رطبة اسمها الأهوار! فيتولى مهمة إماطة اللثام عنهم مغامرون أوروبيون، من أمثال ثيسيغر وماكسويل ويونغ. كان هؤلاء يملكون من العزيمة ما لا يملكه أهل البلاد. وكانت الرائدة في ذلك سيدة ناعمة قدمت مع زوجها في العشرينيات من القرن الماضي اسمها الليدي هيتشكوك!
والأوروبيون قبل هذا أزاحوا التراب عن حضاراتنا القديمة، وقدموها لنا على طبق من ذهب. ولم يكن أجدادنا قادرين على القيام بهذه المهمة لأنهم لم يتمتعوا بنزعة المغامرة، ولم يستهوهم سوى الحصول على الآجر، وبعض المصوغات المطمورة .. لا غير!
والكثيرون منا من دون شك يذكرون كيف قام مستكشف نرويجي اسمه ثور هيردال عام 1977 ببناء سفينة من البردي في القرنة بدعم من السكان المحليين أطلق عليها اسم دجلة. وأبحر بها مع عدد من الشبان، بينهم عراقي واحد، في الخليج العربي وبحر العرب حتى وصل إلى جيبوتي. وكان الغرض من هذه الرحلة المخيفة البرهنة على أن السومريين اكتشفوا أميركا قبل كولومبس بألفي عام! ولكن السفينة لم تستطع مواصلة الرحلة وسط الأمواج العاتية. فقام هيردال بإشعال النيران فيها قبالة ساحل جيبوتي، احتجاجاً على الحرب الدائرة في القرن الأفريقي آنذاك. ولا أعلم جدوى إضرام النيران فيها تلك الساعة. فقد كان يمكن الاحتفاظ بها في متحف أو زاوية أو مرسى، لتكون شاهداً على مغامرة فريدة، لم يكتب لها إلا بعض النجاح!
إن نزعة المغامرة لا تنحصر في ركوب البحار أو اكتشاف البلدان، لكنها تبدأ منها. ولله در غاليلو حينما قال: إن الكون كتاب مفتوح يمكن لأي منا قراءته، إذا ما أتقن اللغة التي سطر بها هذا الكتاب!