جمال جصاني
على الرغم من التطور الهائل الذي شهده عصرنا في شتى المجالات العلمية والمعرفية والقيمية، والذي اتاح بفعل شبكات التواصل والاتصال، الفرص لشتى سلالات بني آدم في الاطلاع على آخر الفتوحات العلمية والانجازات في شتى حقول الحياة، الا ان غير القليل من المنتسبين لنادي «خير أمة» مصرون على الاعتصام بعروة المعارف والعلوم الأزلية للأسلاف العظام، وما اهدته لنا حفرياتهم في تضاريس العالم الآخر وسراديب عوالمه السفلية. مثل هذه الوقائع كشفت عنها جحافل الكتائب والقوافل والعقائد والمشاريع التي تلقفت بيارغ ما بعد «الربيع العربي» والمسكونة باحلام العودة لعصر الغنائم والحريم. لقد حولت مومياءات التراث هذه، والمتمثلة بالاحزاب والتيارات والتنظيمات الاسلاموية، حاضر ومستقبل سكان هذه الاوطان المنكوبة؛ الى بؤس شامل وانسداد لا مثيل له في الآفاق، عندما حولوا فرض التغيير والتحول التي اتاحتها التقنيات والعلوم الحديثة، الى وسائل للقتل والهمجية وكراهة الآخر، عبر ترسانة واسعة من موروثات الانحطاط والشراهة والقشرية، جعلت منا مخلوقات مثيرة للمقت أو الشفقة في افضل الأحوال. لم يعد سراً ما افضت له حفريات المودودي في «الحاكمية» وسيد قطب «معالم في الطريق» في انتاج أجيال من مختبرات «التكفير والهجرة» وادغال «البوكو حرام» وجمهوريات الفقيه والسلطان، ومع مثل هذا الخراج المميت لم يعد الصمت ممكناً، خاصة مع تسارع وتيرة التدهور والانهيار الشامل الذي تدحرجنا اليه جماعات وافراداً، بعد نصف قرن من الهرولات خلف عجاج الصحوات الاسلاموية بفروعها المختلفة.
لقد تحولت منظومة الحريات وحقوق التعبير في مضاربنا، الى ضدها النوعي، ولم تخلف تلك الفزعات الشاردة الينا من مغارات القرن السابع الهجري، غير سكراب من الاستعراضات الخاوية، بعد ان هرست عجلاتها ما نثرته الاقدار من مشاريع فتية وآمال للعيش كبقية الامم التي اكرمتها الاقدار بشرعة حقوق الانسان، ومن يتابع حقبة الهدر المبرمج للطاقات والثروات والامكانات، يدرك نوع المآلات التي ستفضي لها هذه المسيرة في نهاية المطاف. ولنا في الحصاد المر لهذه التجارب السياسية التي لا تطيق السماع بمفردة الحرية، وقائع حية عما نضح عنها من ممارسات، حيث يتم فيها مسخ فطرة الانسان المجبولة على قيم الحرية والحقوق الطبيعية، عبر ترسانة هائلة من الخبرات والوسائل التي تجيد فتل عنق الشعارات والغايات النبيلة صوب الدروب الموصدة والانفاق المعتمة.