بلاغة الخطاب الشعري في «ديوان المراثي الكبيرة» لجواد الحطاب

محمود خيون

عرفت الشاعر جواد الحطاب منتصف السبعينيات من بين شعراء ذلك الجيل الذي كان يتغنى في القصيدة قبل أن يكتبها ومايلبث ان يصنع لها اللغة التي تمكنها من بلوغ الحداثة بكل معانيها ودلالاتها الفلسفية والروحية التي تعتمد السرد والحكاية والمنولوج لتكون بعد ذلك الفكرة العامة التي يتلقاها القارىء بشغف بعد أن يمسك بخيطها الأول وتصدح انغامها في مسامعه عبر ايقاعاتها ورناتها الموسيقية وبحورها المتعددة..والحطاب منذ أن صار يكتب القصيدة التي تكون هي البداية لقصة واقعية عاشها هو مع بقية الناس،يولفها من خلال الخطاب المباشر لاحداثها ليكون من بعدها النص الشعري الذي يريده والذي يحمل الكثير من هموم الآخرين وهم يجتازون مفاوز الموت والخوف والغربة وهم في أحضان أوطانهم لكنهم لا ينعمون بالخيرات بل يتقاسمون الألم والموت على الأرصفة أو بين الخنادق أو داخل النفوس المعذبة التي يغتالها القدر بشتى انواع الاسلحة التي يملكها ويتفنن في استخدامها وتحقيق الهدف منها وهو تحطيم الأماني التي تجوب داخل نفوس الخلق وتتربع بين جوارحها…وفي ديوانه الشعري الأخير( ديوان المراثي الكبيرة ) عبر الشاعر جواد الحطاب عن ايدلوجية جديدة في صناعة القصيدة التي تولد ما بعد الحداثة وتحمل حوارا كلاسيكيا وواضحا عن وقائع مرت في الامس فهو يعتمد الخطاب المباشر المشحون بالتساؤلات تارة وتارة أخرى يكرر الدعوة لأن يترك الناس الشهداء بلا عناويين ولا نجوم تتلألأ من فوقهم..
اتركوه بلا شاهدة
ولا تزرعوا فوقه
نجمة باردة…
واحملوه إلى البحر

  • ياشهداء المياه-
    احملوه إلى البحر
    (ثم يجدد الدعوة لأن لا يحشون أجساد الشهداء بالقطن الذي تتجسد وتنبعث منه روائح الرماد..)
    لا تلفوه بالقطن
  • للقطن فال الرماد-
    واسكنوه مقابر:شكل الجموح..
    هو فجر يخاف الاعنة
    ويخشى مساء الحداء..
    فهو أذن يريد أن يكسر الطوق ويغير طقوس الموت الذي احتضن أجساد الشهداء..وفي هذه الدعوة يكون الحطاب قد تجاوز كل قوانين الأرض ليطالب بترك الأجساد المعطرة بالدماء الزكية في العراء بلا كفن ولا قطن لأن رائحته تشبه رائحة الرماد…وفي قصيدة( حسين مردان ) تتغير لغة الشعر وتطغى على مكنونات القصيدة التي تتحدث عن مأساة وملاحم لشعراء سبقوه في التجربة وفي مقارعة عذابات الزمن والموت على الأرصفة بلا اكفان ولا طقوس ولا فاتحة…
    في الشارع..
    في الليل..
    في العرق المغشوش
    في شقق النار المختومة بالشمع الثلجي
    في السيقان الممتدة انهارا..
    اليت..
    إلا أن تحفر قبرك في منبعها المجهول
    لم تعرف..
    أن الزمن..
    مدار: موعده الزمن المقتول
    وهكذا تتكرر المشاهد عند الحطاب في جميع قصائده التي احتواها ديوانه( ديوان المراثي الكبيرة ) والذي حمل الكثير من الوقائع والأحداث التي مرت وذهب في رحاها الكثير..خاصة تكرار الحروب والمطاحن البشرية وقتل الأحلام وسربلة الأماني في خندق الضياعات الازلية التي تحملها الناس وبجميع اصنافهم.. وانا اتفق في الرأي مع قول الناقد الدكتور صالح هويدي حين يصف الحطاب بالقول( شاعر استجاب لنداء نفسه ولمتطلبات الواقع التاريخي وما حل بالعراق فوجد نفسه منخرطا في استذكار فجائعه ليقدم لنا مرثياته، بروح الحداثة ووعيها، مجددا فيها ومعيدا الإعتبار لهذا الغرض الذي تحول معه إلى هم حداثي تجاوز كل نمطي ومألوف..) ومما تقدم فأن الشاعر جواد الحطاب إستطاع في ديوانه( ديوان المراثي الكبيرة) ان يجسد الصورة واسعة الآفاق والدلالات لماهية الشعر وعنفوانه وريادته، فهو رسم في قصائد عديدة محمولات اللغة ومضامينها ذات المفاهيم الشعرية التي تتجلى صورها الواحدة تلو الأخرى مثل قصائد نقابة المفخخات ومرثية بغداد ومقبرة الغرباء وامرأة من عشب والمحارب في وداعه الأخير والجفاف وغيرها..فقد غلبت على تلك القصائد السمات الفنية البارزة التي تكتب بها قصيدة النثر الذي يمتلك البحر والإيقاع وبلاغة الخطاب السردي والشعري الذي عرف به الكثير من شعراء الحداثة ومنهم السياب و عبد الوهاب البياتي ورشيد مجيد وسعدي يوسف وفوزي كريم ومنذر عبد الحر ومؤيد عبد الواحد وكمال سبتي ورعد عبد القادر و عبد الأمير خليل مراد وكاظم ناصر السعدي وغيرهم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة