سرديات رحلة فاطمة المحسن الناقصة..

2-3

جمال كريم

المستهل:
تسترد الكاتبة والباحثة والصحفية فاطمة المحسن في «الرحلة الناقصة» سيرة من حياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية وأيضاً تحولاتها النفسية والعاطفية تبعاً لنظرتها ومواقفها ورؤاها الشخصية من الحياة والشخصيات والأمكنة والأحداث التي داست عليها الأيام والسنون والمحن والنكبات.تسترد كل ذلك عبر محكيات سردية تلامحية عن حيوات مخلوقات «موتيفات» رحلتها في مقاطع،واستغراقية في أخرى، فتجدها وفي أكثر من مقطع سردي توصيفي تستعيد به أكثر من مدينة وحدث وشخصيةٍ كما في «موتيفها» الثاني «المدن قبض ريح»،الذي توظف من خلاله منتقلات سردية وصفية لمدينتي بيروت وبغداد بعد عبورها حدود البلاد محلّقة بـ»ريش» حياتها الى لبنان، وبخاصة عاصمته بيروت،»تعرفت على بيروت شبه وحيدة، فصديقتي «سمر» زميلة الدراسة الجامعية التي رافقتني في رحلتي الأولى،ذهبتُ مع عائلة أصدقاء أهلها اللبنانيين وكانوا في انتظارنا في المطار.كنت أرى شارع الحمرا قريباً وبعيداً من حلمي المؤجل………..كنت أخال نفسي في فيلم فرنسي، وأنا أتناول قهوتي على طاولة حد الرصيف،وأدخن سيجارتي باسترخاء،وأنظر العابرين»ص 13.تستعرض المحسن في هذا المقطع السردي التوصيفي جزءا من بيروت الحرية و الملاذ والخلاص والمسترخى وحيدة من دون صديقتها،لكن المقارنة السردية في المقطع اللاحق لبغداد التي شوهت معالمها مخالب الصراعات السياسية ونكبات ومحن وصروف العصر والحروب. بغداد التي غادرتها المحسن فيما بعد رحلتها الأستكشافية الأولى لبيروت خلال سبعينيات دراستها الجامعية، مذعورة وقد ذاقت تعذيب جلاوزة معتقلاتها،وملاحقة رجال أمن سلطتها القامعة، هي غير بيروت التي استشعرت بجمال»شباب» أمكنتها «البحرية».
«لعله لا يشبه صباحات بغداد الصاخبة ،فبغداد كل شيء فيها يمضي مسرعاً، لاثبات في الأماكن ،ولا معالم تدل على تلك الحميمية التي تشعر النساء بالإسترخاء، كنا نركض مثل عداءات فاشلات،فتضاريس بغداد متباعدة……….وهكذا وجدتني أقف عند أعمدة شارع الرشيد بعد عودتي، لأسأل نفسي عن تلك النقوش الايلة الى التلاشي»ص13.فمن خلال هذين الوصفين السرديين المعبرين عن وجهة نظر المحسن نفسها فإن بغداد التي بلورت شخصيتها الفكرية والثقافية وحتى المهنية الصحفية هي مدينة صخب وركض وتلاشٍ وزحام وغبار وخوف وتوتر،ونساؤها مثل «عداءات فاشلات»، فيما تبدو «بيروت مشرقة ومطواعة، فهي تشعر المقيم من العرب والأجانب بما هو ضائع بين صورتين متداخلتين،الشرق والغرب.تجد المرأة الأشياء التي تفتدقها،فهي تخطو في الشارع دون أثقال الجسد والملابس، متخففة من الأسئلة التي تلاحق خطواتها»ص 15.
في كل «موتيفات» رحلة فاطمة المحسن الحياتية الناقصة،وبما في ذلك عتبات العناوين الداخلية الأخرى ثمة سيرة للعواصم وفضاءات أمكنتها وناسها وتقاليد عيشها وطبائعها،وثمة سيرة أيضاً للأحداث والشتات العراقي بمختلف شرائحه الإجتماعية، لكنها ركزت وهي واحدة منها، في محكيات سردياتها الإستعادية على شريحة المثقفين من الشيوعيين واليساريين الذين توزعتهم مدن الضباب والبرد والثلج القصية ليعيشوا تحت قبضة الإغتراب والمنفى، ومعتزلات الوحدة والإنكفاء والمنسى وهم يترقبون منطوى الأيام يوماً بعد يوم ،وعاماً بعد عام،وحلماً بعد حلم.لكن المحسن لم تنس بغداد ولا البلاد،وظلت تستعيد أمكنة طفولتها وصباها وشبابها،وحتى مناكدات أخيها»عامر» في أسرة تعايشتها أكثر من مدينة وبيت وبيئة، بحكم عمل والدها الوظيفي.لم تنس المحسن في متن سرديات رحلة حياتها الناقصة كل تلك البيوتات التي عاشتها، ولا حتى مراحل نضج وعيها وفكرها ومعرفتها وعملها المبكر ربما كأصغر صحفية في مجلة»الأذاعة والتلفزيون» قبل أن تعمل في صحيفة»طريق الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي وهي الناشطة النسوية البارزة في تنظيماته سنواتئذ.لم تنس حيوات كل ناسها الذين مرّوا بمحطات حياتها وهي في غمرة العيش في لندن الضبابية أو غيرها من المدن التي حطّت رحالها في أحضانها، ولهذا يتناقل السرد المحكي الأستذكاري من هذا المكان الى ذاك،ومن هذا الزمن الى ذاك،ومن هذي الشخصية الى تلك، ومن هذي الأحداث الى غيرها:»الجنية التي رعيتها بكل جوارحي،هجرها أهلها، وعادت ليلى أخت البطلة في «فنار» فرجينيا وولف.لغط الموسيقى والصداقات والكؤوس التي كان يكسرها زهير الجزائري وفالح في رأس السنة.يصر فالح على أن يشعل ناراً في برد ديسمبر وسط في فسحة الحديقة، ويشوي اللحم مع زهير .اكتشف في الصباح مؤامرة كسر كؤوس الكريستال الجميلة التي أهداها إلي قريب ثري قد اكتملت بينهما بعد السكرة الأولى.يجتمع الأصدقاء في بيتنا، ليتبارى صادق الصائغ وفوزي كريم على أغنية «يا منية النفس».كل مرة نتذكر هذه الاغنية مثل نشيد وطني،مثل يوحدنا في الذائقة والذكريات.سخر صديق شاب منا في اليوم التالي،قال أكيد غنيتم الأغنية نفسها، فأدركت محنة ان تبقى محتفظاً باشياء غابرة»ص21.
تسترد المحسن في هذا المقطع السردي المكان/البيت في أحد الأعوام بلندن الآفلة على ايقاع ساعات احتفالية حميمية جمعتها وحيوات فالح عبد الجبار الزوج، والأصدقاء زهير الجزائري وصادق الصائغ وفوزي كريم،وجميعهم يعيشون في المهجر و المنفى، وعصف الشتات،وبخاصة الشتات الثقافي العراقي الذي ملأ المدن والعواصم وشغل منابر ثقافتها ومنتدياتها ومقاهيها.لكنها في المقطع السردي الاستذكاري سرعان ما تنتقل بمستردها الى بغداد ويوسف الصائغ وهيئة تحرير «طريق الشعب» بغداد شارع السعدون أعوامئذ وبمشترك تذكّري جميل للأغنية التي تبارى عليها الشاعران صادق الصائغ وفوزي كريم ساعتئذٍ في ليلة لندنية قصية عن ليالي بغداد.بمعنى تتناقل السرد من لندن في ذلك العام وتلك الصحبة، الى بغداد خلال أعوام أفلت وانطوت في أدراج الماضي وبين رفوف الذاكرة :»أتذكر صوت يوسف الصائغ في كل مرّة غناها في صباح شتوي خلال زياراته اليومية لغرفتنا،نثرثر ونقشب ونضحك.زهير الجزائري ومؤيد نعمة الأبرع بيننا في تحديد الأهداف وتوزيع القفشات التي تستهدف في الغالب،هيئة التحرير وقيادة الحزب»ص21.
وتتداخل سرديات ومحكيات المحسن في إسترداد واستعادة أمكنة وحيوات هنا في الملاذات والمنافي المعيشة، وفي الوقت نفسه تسترد الـبلاد ومخلوقات صحبتها التي اصبحت في حكم وظروف وجغرافيا الـ»هناك» بالنسبة لكل المنفيين والشتاتيين من المثقفين العراقيين:»كنا في غرفة تحوي المجموعة الأكبر من المحررين والرسامين، ويزورنا يوسف الصايغ كل يوم تقريباً، رغم أنه من سكرتارية التحرير التي تسكن في الغرف العلوية، وفي أحيان يكتب مقاله على إحدى الطاولات الفارغة.كان يوسف يحب أغنية «يا منية النفس»،ويدندن بها باستمرار وهو يتطلع خارج النافذة كمن ينتظر موعداً….»ص22.
فالمكان في هذا المحكي السردي العاصمة بغداد وتحديداً شارع السعدون بمقر صحيفة «طريق الشعب» حيث كانت تضم الى كادرها التحريري نخبة من صحفيي وشعراء وأدباء وفناني ومثقفي البلاد،وهي بذلك أضحت من أبرز الصحف تداولاً وانتشاراً بين الجمهور الأمر الذي أغاظ واستشاط مؤسسات اعلام البعث،ورجالات السلطة جبهتئذ بين البعثيين والشيوعيين.
ويا منية النفس ما نفسي بناجية (همسة حائرة) التي تبارى عليها الشاعران صادق الصائغ وفوزي كريم في لندن، كان الشاعر الراحل يوسف الصائغ يدندن بكلماتها على الدوام ببغداد في مبنى «طريق الشعب» بين محرري الصحيفة، هي من ألحان وغناء محمد عبد الوهاب، ويبدو محمول الأغنية وهي من قصائد الشاعر المصري عزيزي اباظة، ويبدو أن بناءها الفني ومحمولها العاطقي كانا يتشاغفان همسا مع مشاعر وعواطف وذائقات محبيها ومدندنيها، خاصة وهي من الحان وأداء محمد عبد الوهاب :

يا منية النفس ما نفسي بناجيةٍ
وقد عصفْتِ بها نأْيًا وهجرانا

أضنيْتِ أسوان ما ترقى مدامعه
وهجْتِ فوق حشايا السهد حيرانا

يبيت يودع سمع الليل عاطفة
ضاق النهار بها ستْرًا وكتمانا

هل تذكرين بشط النيل مجلسنا نشكو هوانا فنفنى في شكاوانا

تنساب في همسات الماء أنّتُنا
وتستثير شجون النهر نجوانا

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة