خداع النهاية السردية في «رسائل رطبة» لنبيل جميل

مهدي علي ازبين

مفتتح تنظيري
الرواية فن له دلالاته وصيغته تتمثل بالصنعة وجانب آخر يتمثل بوجهه الابتكاري، وكليهما يدفعان بالإبداع إلى مراتب أعلى، ومن خلالهما يتم بلوغ أخطر ما في النص الروائي ألا وهو الوصول إلى حدود النتائج (يونس، 2017م:80-76).
وهذه الحدود متعارف على أنواعها المتمثلة بالنهايات، لكن قد يفاجأ المتلقي الناقد والقارئ بمغايرة في بعض النصوص لافتة لاهتمام أكبر، وتاريخ الابداع الفني هو الإضافات والتجاوزات والاختراق الفني، وليس التماثل وإعادة انتاج ما سبق، وتظهر أهمية النصوص بما تضيفه وليس في استنساخ السابق (بطرس، 2009م:11). والرواية تساير العصر بكل متغيراته واندفاعاته التطورية، لذا صار مطلوباً أن تعيد النظر في طبيعتها، ولا تركن إلى أية مرجعية راسخة، فهي عالم متغير قابل باحث عن التجدد واستيعاب أي جديد (إيغلستون، 2017م: 11).
إن كل الفنون هي صور من تفاعل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها، وكما تعلمنا أن الفن يستمد موضوعاته من الحياة، يعبر عنّا وعن كل ما يحيطنا (بن عقيل،2005م: ص8)، والرواية من أهم الفنون الإبداعية التي تتفاعل مع الواقع وتولّد المتعة الفكرية والفنية بصورة مؤثرة، وهي سرد نثري خيالي يمتاز بالطول وتجتمع فيه عناصر مختلفة في الأهمية بتنوع الروايات، وما تتضمنه من تفاصيل، وتمتاز بالاختلاف عن بقية الأشكال الأدبية بشكل جذري، لأنها تتمرد على القواعد والأطر التي تحاول التحكم بشكلها الفني (أحمد، 1998م:7).
إن النص الروائي لا بد أن يستهل ببداية، وهذه البداية مهما كانت بلاغتها، فإن النهايات تكون أكثر وقعاً منها وتأثيراً في ذهنية المتلقي، وتوجد تقسيمات للنهاية ارتأى بعض دارسي الأدب أن يقصرها على النهاية المغلقة والمفتوحة، ومنهم من يربطها بالحالة الشعورية والإيقاع الانفعالي فيسميها حزينة أو سعيدة.
ويجدها بعض النقاد في مراتب على حسب نتائجها فهناك الحد المعرف وفيه تكون النهاية متوقعة ومطابقة للتفاصيل، والحد المفترض وهذا النمط متباين البيان والمجهولية، والحد المجهول وهو الذي يمثل النهاية غير المتوقعة، إذ يقف المتلقي بدهشة واستغراب أمام نهاية تامة المجهولية (يونس، 2017م:80-81).
وفي المجال اللغوي يمكن ملاحظة انزياح بين دلالة مفردة (نهاية الرواية) و(خاتمة الرواية)، وهنا نحاول أن نتواصل مع المتن الروائي حتى استقراره وتوقف التدوين، لنلاحقة تأويلاً للوصول إلى التقاط مخاتلة في (رسائل رطبة).

لمحة عن الرواية/
امتازت رواية (رسائل رطبة) للكاتب نبيل جميل بإتقان اللعبة السردية، فقد اعتمدت على صوت (خالد) السارد الرئيس، متبادلاً الدور في بعض المواضع مع (عائشة) عبر الرسائل المتواصلة بينهما، التي اشتغلت على تواريخ مختلفة، متماشية مع المتوافر من وسائل الاتصال، فقد بدأت ورقية وتحولت إلى نصية عبر الشبكة العنكبوتية.
وقد حرك الراوي شخصياته ضمن فضاء روائي اتصف بالتنوع، وتساوق مع ما دار من أحداث منوعة مستوعبًا الشخصيات وتفاعل معها.

النهاية والخاتمة- مهاد مفاهيمي/
قد تقارب دلالة النهاية مع ما تعنيه مفردة الخاتمة، هذا ما يوحي به الاستخدام اللغوي، فتكون إحداهما مرادفة للأخرى؛ لكنهما غير متطابقتين. أما في التنظير السردي فقد اختلفت الآراء، واتفقت على وجود انزياح بالمعنى، وان هناك فرقًا في توظيفهما، فالنهاية بالمصطلح الإجرائي تعني استقرار متوالية الملفوظات، وتوقف التفاعل لما بعد هذه المفردة، وتكفي عملية التسارد إلى حدود مفردة (النهاية) أو (انتهت).
أما الخاتمة فتؤدي مهمة النهاية من حيث توقف الكتلة اللغوية، وخفوت الأصوات المتواصلة التي تطلقها الحروف؛ لكن رنينها يبقى مستمرًا في ذهنية المتلقي، متحولاً إلى تفاعلات تتصادى بعد الفراغ من القراءة، إذ يتواصل التفاعل من خلال الانفتاح على تأويلات متعددة، ويبدأ المتلقي بافتراض متون مكملة تملأ الفراغات وما سكت عنه النص، وتسلط الإضاءات على الزوايا المعتمة، هذا التفاعل يفضي إلى إغناء عملية التنافذ الإمتاعي، واكتشاف معطيات أكثر متعة من مقاصد النص.
وقد حوّل بعض الكتاب الخاتمة إلى النهاية المفتوحة، متذرعين بأن الحياة لا نهاية لها، والرواية مجرَّد صفحة من كتاب الحياة، والخاتمة المفتوحة تظل مشرعة على احتمالات متعددة لذا يقوى التشويق ويشارك القارئ في التأليف من خلال تصور النهايات التي ترضيه (زيتوني، 2002م:85).
تتجسد ضرورة الخاتمة في حرص الروائي على تركيز الأحداث في اتجاه محطة النهاية، إذ تعد الخاتمة استراتيجية تُلقي بكل ثقلها على النص، وهي أن ينحو بنا المنطق إلى أن نجزم أن الراوي حتيّ ما دامه يشرد، فيكون مجمل المسرود هو تشكيل من مخيلة قد تكون بوعي تام أي أنها رسمت أطيافًا وقدمت معيارًا فنيًا بترميزات مقابلة لواقع وأحداث يعرفها المتلقي. مفهوم إجرائي يمكن بواسطته تعيين بعض مستويات اشتغال مؤشرات، وعلامات النهاية، سواء على المستوى المادي المحسوس، أو على المستوى التأويلي الحدسي غير المباشر (أشهبون، 2013م:23).
وتعدّ الخاتمة موضعًا يُفترض أن تكتمل فيه الأحداث، ويسدل الستار على مجرياتها، ويغلق نظام الإشارات وتكتمل رسالة الروائي، فتكون الجزء الأخير من نصّ ما، يذكر فيه آخر تطورات الأحداث في العمل الروائي (وهبة، والمهندس، 1984م: 156)، فهناك نصوص لها بدايات ولكن ليس لها نهايات، إنما لها خواتيم تغلق النـص ولا تغلق اشتــــغاله فــــي ذهــــن المتلقــــي، وقد تكون الخاتمة محورًا أو بؤرة تتجمع حولها أو فيها معظم عناصر العمل (بحراوي، 1986م:212).
يستقر تدفق السرد مع النهاية البيولوجية للراوي وخروجه من قيود الأحياء.
إذن كيف سطر لنا كل هذا الخطاب وهو متوفى؟ هل رواه بعد أن فارق الحياة وهذا يغالط المنطق؟
لكن الخاتمة أخبرتنا أن الراوي منتهٍ؛ كيف نؤوِّلها مع النص الرئيس، كونها نصًا موازيًا يتفاعل مع المتون، ويؤدي وظيفة إيحائية متممة وهو بمثل هذه القفلة.

الخاتمة وتواصل السرد/
في العمل قيد الدرس (رسائل رطبة)؛ وضع الكاتب في الصفحة (235) عنوانًا فرعيًّا وسمه بـ (نهاية) وتحتها الترقيم (29)، يتناول النقلة النوعية التي اتفق عليها أصدقاء الفيس الثلاثة (حاتم وقيصر وخالد)، كما شمل عنوان (نهاية) القسم المرقم بـ (50)، وفيه يرافق المتلقي الأصدقاء الثلاثة في بحثهم عن طرق عبور تركيا والوصول إلى بغيتهم (ألمانيا أو النمسا).
ويطلعنا السارد على تفاصيل اليوم الأخير للعبور إلى الجانب اليوناني، مدوّنًا ذلك من منتصف الصفحة (245) حتى منتصف الصفحة (249). وبعد أن فرش أوراقه يقول/
[اليوم هو الأخير، عند منتصف الليلة سنعبر البحر، يقول المهرب أننا سنعبر إلى جزيرة (خيوس) لأنها الأقرب، وفيها مراكز تسجيل اللاجئين… سوف يهتمون بكم، ثم يتم نقلكم إلى مراكز استقبال اللاجئين، بعد تحقيق بسيط يتم قبولكم]245-249
ويرسم في تضاعيف الحروف الملهوفة خارطة طريق، ويعدد لنا كل المحطات والنقاط التي تقتضيها رحلة الخلاص مع توقيتاتها وأهم أماكن التقاط الأنفاس، مع ذكر العناوين والأسماء لجزر وقرى ومدن وحتى الفنادق…
ويختم الراوي مخطوطته في المقطع رقم (51) بأسطره السبعة التي تبدأ بـ [أنا الآن في أواخر شهر أيلول 2015]، وينتهي بـ [بدأ الحلم بالنمو.. والليلة سيكتمل] ص249
فها هو الآن يتلمس حلمه ويشارف على تحقيقه، لأنه سيتجه بعد ساعات إلى جزيرة (خيوس) اليونانية التي ستكون خطوتهم الأولى للانطلاق على مسار مرتجى.

المفارقة الخادعة/
إن الخطاب توقف مع بدء عملية الهروب/ الخلاص وتحقيق طلب اللجوء الإنساني، ونحن علمنا منذ انطلاق المتون أن ما لدينا هي مخطوطة لرجل ميت أو مذكرات تعود لشخص أنقذه خفر السواحل جثة، وهذه المخطوطة إحدى متعلقاته ومحفوظة في (سترة نجاته).
إذن ما الداعي لإعلامنا بمسار رحيلهم نحو الخلاص؟
وجدت في هذه الإزاحة لعبة تقنية ابتكرها العقل الباطن للكاتب، أو أنها حدثت بقصدية منه، وهذه التقنية اشتغلت على زمن خارج سياق السرد، ولمّحت إلى وجود زمن افتراضي، وهو زمن ضائع كان لا بدّ أن يمر به خالد وصديقاه للعبور إلى ضفة الحلم، وتحقيق الخلاص من واقع طارد للإنسان ويهدد وجوده إلى فضاء رحيب يحافظ على الإنسان كقيمة كبرى، وينبغي أن يعيش في بيئة صديقة، تسعى لتحقيق رغباته ومتطلبات الحياة الكمالية.

…………..
المصادر/
1 – حامد بن عقيل، فقه الفوضى، دار مشرقيات، بيروت 2005م
2 – سيد بحراوي، دراسة في القصة العربية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1986م.
3 – روبرت إيغلستون، الرواية المعاصرة- مقدمة قصيرة جدا، ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي/ المدى، بغداد، 2017م.
4 – عبد المالك أشهبون، البداية والنهاية في الرواية العربية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013م.
5 – لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، دار النهار، بيروت، 2002م.
6 – مجدي وهبة، وكامل المهندس، معجم المصطلحات في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، ط.2، 1984م
7 – محمد يونس، التحديث الاصطلاحي/ دراسة في الأنساق المستحدثة في بنية الرواية، أمل الجديدة، دمشق، 2017م.
8 – مرشد أحمد، المكان والمنظور الفني في روايات عبد الرحمن منيف، دار القلم العربي، حلب، 1998م.
9 – عاطف البطرس، الانفتاح الدلالي للنص/ مقاربات في الرواية والقصة القصيرة، ينابيع، دمشق، 2009م.
………………….
*رسائل رطبة، رواية، نبيل جميل، دار أمل الجديدة، دمشق، 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة