شاكر الأنباري يعزف نشيد البلاد على سلّم سرد الحزن

جمال كريم

يسعى معظم حكاّئي السرد على اختلاف قدراتهم الأبداعية الى إيلاء المفتتح السردي عناية اسلوبية خاصة تهدف بطريقة وأخرى الى اجتذاب المتلقي، وجعله يبتلع الطعم الأستدراجي لمواصلة المحكي السردي عن الاحداث والشخصيات التي تتحرك وتتنقل بين أمكنة مسارح افعالها الطامحة، وصراعاتها الساعية الى حياة اكثر أمناً وسلاماً وحرية وجمالاً،وعدلاً ومساواةٍ،ومستقبلاً راغداً لاتنغصه ويلات الحروب، ولا قمع الأنظمة وسلطاتها المتجبرة وغياهب سجونها المتصلة.وتنشغل معظم شخصيات المحكيات السردية في جغرافيا أمكنتها،وحيّزات أزمانها بمصائر حيواتها،وكينونات وجودها،واذا ما شعرت أن ثمة ما يهدد كيانها الوجودي على هذي الأرض اوغيرها فإنها لاتتواني من أن تركب أعظم المخاطر وصولاً الى ملاذها الآمن،وخلاصها المرجو.
«غابت شمسنا، وتركت وراءها ملاءة برتقالية كثيفة اللون راحت تنسدل على غابات السرو، وأبراج الكنائس، وواجهات العمارات العالية في هذه المدينة الغريبة علينا. غابت تلك النجمة البعيدة ، نجمتنا، ببطء، فأدخلت الحزن إلى أرواحنا، وبدأنا نتجمع في الفضاء ، كما درجنا على فعل ذلك كل غروب. هذا وقتنا المناسب لترك مخابئنا وقبورنا، وصورنا الشفيفة، وأجسادنا الفانية، المدفونة في أرض باردة، استعدادا لطقسنا الذي دأبنا عليه منذ زمن طويل. أي رواية الحكايات، بعد أن اصبحت تسليتنا الوحيدة في وجودنا الملتبس.
اعتدنا أن نخرج كل ليلة من مخابئنا: من وسط الأغصان، ومن وراء الشواهد، ومن القبور، ننزل من السماء القريبة، ونتجمع في أفق المقبرة ، ثم نبدأ في رواية ذكرياتنا، وهي تعود في الغالب إلى عقود خلت، منذ أن دخلنا إلى هذه البلاد.بعض من الأرواح نعرفها حين كنا في الحياة الأرضية ،وبعضها نتعرف عليه أول مرة من خلال حكاياتها التي سمعنا بها، أو تقاطعت ذات يوم مع أشخاص كنا نعرفهم هناك. أشخاص أمتعتنا حكاياتهم، وطريقة عيشهم، والغرائب التي عاشوها.لم يتح لنا الرقود بسلام مع أجسادنا المدفونة في الارض،ولا تهيأ لنا الأفلات من مصيرنا والسفر نحو السماء البعيدة كما تفعل الأرواح على الأرض حين تغادر أجسادها، فلبثنا معلقين،وتحولنا الى ذكريات شاحبة وأصداء.وهو مصير وجدناه غريباً، لكننا ارتضينا به في النهاية».
يحيل هذا المفتتح الجاذب بمقطعيه السرديين المتلقي منذ البدء الى الاغتراب الروحي القاتم الذي يتلبس تلك الشخصيات وهي تعيش صدمة خواء أحلام ملاذاتها القصية الباردة،فتنطوي على ذواتها التي تعتاش ذكريات الحياة التي طوتها الايام والسنون والأمكنة والاحداث.ذوات ترتضي بهذا الخيار بعد أن يئست من جدوى العودة الى البلاد التي مازالت رهين نشيدها الحزين.
وهذا ما تخاطر به شخصيات رواية شاكر الأنباري «نشيدنا الحزين»الصادرة مؤخراً عن دار سطور للنشر والتوزيع.
وتتنقل شخصيات الرواية المستوحاة بشكل رئيس من واقع حياة المجتمع العراقي في اطار المعيش الراهن بمؤطريه الزماني والمكاني.شخصيات تعبرحدود سمائها الأولى لتمر من تحت أكثر من سماء قبل أن تصل الى مهاجرها القصية، ومنعزلاتها القاتمة التي تؤدي في نهاية المطاف الى منساها حتى يطويها الموت الى أبديته السحيقة المجهولة.
وتظل شخصيات «نشيدنا الحزين»تعيش صراعاتها النفسية الدفينة في تلك الأمكنة الملاذية،وتنظر بعيون خبا الأمل في بريقها الى تلك البلاد التي مازالت تعزف نشيدها الحزين تحت سمائها الخابية.
الأنباري يروي حياة شخصياته التي مشى عليها الزمن والأحداث والمحن والنكبات في تلك الملتجآت الباردة وهي تعيش حنينها الخاص الى تلك الحياة التي طويت صفحاتها في كتاب البلاد الحزينة.تسع وعشرون وحدة سردية ضمتها ثلثمئة وثماني وعشرون صفحة جسدت وحداتها ومقاطعها وحواراتها ووصفياتها السردية كل ما يمكن أن تلتقطه حواس الأنباري نفسه ليضع كل تلك الحيوات اللائذة بملتجآتها في قاربه السردي الجاذب.
عموماً،فان الرواية كما جاء على غلافها باعتباره «نصاً خارجياً موازياً» تستلهم حياة اللاجئين اليومية على امتداد عشرات السنين،والأنباري يروي تلك الأحداث والقصص.أموات لم تغادر ارواحهم المقبرة وظلت معلقة في الفضاء،فلا هم يمضون الى السماء للخلاص من وجودهم السابق، وفي الوقت ذاته لا يمكنهم احتمال التربة البارة للبلد الغريب كي يناموا النومة الأبدية .إنه الوجود الملتبس و»النشيد الحزين» لمن فارق وطنه وعاش مغترباً في بيئة نائية .يختفون حين يبزغ النور لكنهم يظهرون بعد مغيب الشمس كل ليلة وعلى مر الزمن.يقضون أوقاتهم برواية حكايات أصدقائهم السابقين ومصائرهم،تحولاتهم ومغامراتهن واسباب موتهم وأحلامهم وكوابيسهم وذكرياتهم في الوطن.
رواية «نشيدنا الحزين» هي رواية الأغتراب بدلالتيه :الحياتية الأجتماعية،والذاتية الوجودية،سواء في الوطن الطارد أبناءه، أو في الوطن الملتجأ اليه.وهي رواية كل تلك الحيوات التي عاشت ثقل تلك المعاناة والآلام بينهما بأمتياز.
ويعد الروائي شاكر الأنباري الذي عبر حدود البلاد منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي المولود بحامضية الأنبار «1957» من بين ابرز الروائيين العراقيين الذين اشتغلوا في اغلب سردياتهم الروائية على موضوعة المنفى والأغتراب خاصة وانه ما زال يعيش في منفاه الدنماركي، كما يعد الأنباري أيضاً من بين الأبرز ممن اشتغلوا على موضوعة العنف الطائفي ومظاهر الأختطاف والقتل والتغييب التي سادت العراق بعد إسقاط النظام السابق والإحتلال الأميركي ،وهيمنة الأحزاب الاسلامية على زمام الأمور في البلاد .
وتنوعت كتابات شاكر الأنباري بين التأليف والترجمة وكتابة القصص والروايات،ولعل من بين أهم اصداراته بعد رواية»نشيدنا الحزين» الصادرة مؤخراً في مجال القصة والرواية: مجموعة «انا والمجنون» القصصية،و»تشكيل شامي»و»ثمار البلوط» و»الواح»،ورواية»ليالي الكاكا»و»الراقصة»و»موطن الأسرار»و»نجمة البتاويين» و» مسامرات جسر بزيبز»و»أقسى الشهور»و»بلاد سعيدة»و»الكلمات الساحرات»و»كتاب ياسمين» و»أنا ونامق سبنسر»،فضلاً عن كتاب»مثل برق خبا» الذي حمل سيرته الحياتية والثقافية.
والى جانب هذه الاصدارات صدرت للأنباري :
«عربة توينبي»و» ثقافة ضد العنف؛ إطلالة على عراق ما بعد الحرب» و» دولة على مفترق الطرق « و» الديمقراطية التوافقية مفهومها ونماذجها»و» أسوار أوروك «وترجمة «المريخ جنة».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة