الخيط الناعم في «ضوء برتقالي»

يوسف عبود جويعد

في رواية (ضوء برتقالي) للروائية نادية الابرو، سنتابع بنية نصية سردية روائية لعالم المرأة، حياتها، علاقاتها العاطفية، معاناتها، ظروفها المعيشية، ورحلتها وحدها مع آلام الحمل والولادة التي تنوء بحمل وزره دون أن يشاركها أحد فيه، والكثير الذي يختفي خلف أبواب موصدة، لم نكن نراها لولا أن الروائية فتحت هذه الابواب الموصدة، لنلج الى هذا العالم المبهر من خلال الساردة بطلة هذا النص (هناء)، التي سوف تقودنا الى مبنى هذا السرد، والى حياة المرأة التي خير من تقدمها للقارئ المرأة نفسها، والتي عمدت الروائية على أن تكون حياة البطلة مدخلاً لحكايات وأحداث وثيمات لنسوة أخريات ارتبطن بالأحداث الرئيسة والبؤرة المركزية لهذا النص السردي، ويأتي ذلك بحكم أن بطلة هذا النص، تعمل في أحد المستشفيات الخاصة بالولادة، قابلة مأذونة، وهكذا تتيح لنا الروائية رؤية المرأة في عالمها الخاص بها، عالمها وحدها دون سواها، ومن وجهة نظر امرأة، كون أن هناء حرمت من فرصة الارتباط بحبيب قلبها رياض جارها، بسبب رفض أمه الزواج منها، وتبدو لنا أن الرواية كتبت بشكل دائري، حيث تبدأ الرواية من حيث انتهت، لنتابع امرأة ملفعة بالسواد وسط ليل أسود ممطر، تلفها عباءة سوداء، بللها المطر، مطرزة اطرافها الوحل المتطاير اثر سقوط حبات المطر:
(أوعزت السماء إلى غيومها بالتوقف، بعد أن تأكدت من غرق معظم البيوت المتعبة، في تحالف وطيد العلاقة مع فقر مزمن.
تناور خيوط الشمس صباحاً تأخر الوصول، وتتخبط هناء في الأزقة والطرق تحتمي بقطرات المطر من عيون فضولية تحمل سؤال السؤال، لكن شكراً للعباءة التي توارى الكثير عنها، فتلفعت بها سائرة على غير هدى أو اتجاه.) ص12
ويبدو لنا أن هذا المشهد لهذه المرأة التي تخط طريقها وسط هذه الأجواء هو الحس الدرامي الذي سوف يرافق أحداث الرواية منذ بدايتها، ويتماهى مع مجريات الحركة السردية ويتفاعل معها، ليكون العامل المساعد، لمتابعة هذا النص، لأننا سوف نبقى مع تلك المرأة وهي تسرد لنا الاحداث من داخل امرأة، بلغة سردية تنبع من أعماقها.
وتدور الأحداث، ليتزوج الحبيب رياض من امرأة أخرى، وتنجب توأم ولدين اسماهما سعد وسعيد، ويتم ذلك في المستشفى التي تعمل فيه هناء وبإشرافها، وبعدها تحدث المفاجأة بالهجوم على بيت رياض من قبل رجال ملثمين مسلحين، واقتياد جميع افراد العائلة إلى مكان مجهول، اتضح فيما بعد بأنهم هجروا الى ايران، باستثناء التوأم سعد وسعيد اللذين تولت هناء رعايتهما ثم ايصالهما الى أهل هند زوجة رياض في العمارة:
كان مكوثهما معنا فيه خطر كبير عليهما، فخرجت بهما تحت جنح الليل، أخبئهما تحت عباءتي إلى سيارة التاكسي التي أقلتنا إلى أهل الدكتور حيدر في الناصرية، وهنالك فوجئت بحفاوة الاستقبال واللهفة في مساعدتنا على الوصول لأهل هند، أولئك الذين يقطنون في مدينة العمارة.. القلعة ويا لبعد (الجلعة).) ص 33
وتبقى هناء على تواصل مع أهل هند ومتابعة رعاية التوأم سعد وسعيد، حيث تزورهم كل شهر لتتابع حياتهما، وتشم بهما عبير الحبيب رياض، ثم يبدأ تفرع الأحداث بحكم عمل هناء قابلة مأذونة، وهذه المهنة الانسانية النبيلة، تكشف الكثير من الحكايات لنسوة عانين الامرين من آلام الحمل واوجاع الولادة القاسية، واسرار تخص تلك الفتيات البريئات اللواتي غرر بهن، من شباب أو رجال وعدوهن بالزواج ثم أخلفو الوعد، لتكون مهمة هناء ستر تلك الفتيات وحمايتهن، بعد أن حملن أجنة في أحشائهن بطرق غير شرعية، ومن تلك الحكايات حكاية نور التي جاءت وسط جنح الظلام، باحثة عن الستر، وطرقت باب هناء:
(كانت شابة جميلة لا يتجاوز عمرها العشرين ربيعاً، خائفة مترددة، تتعثر بكلماتها مثلما تتعثر بخطواتها وهي تتلفت حولها، لم أتفوه بشيء أنا سوى أني دعوتها إلى الدخول، فقد مر عليّ مثل هذا المنظر عشرات المرات. الشيطان… نعم الشيطان) ص51
وتمضي الأحداث بين حياة هناء التي تزوجت وأنجبت أولاد، وبين حكايات النسوة اللواتي يطرقن بابها في الليل البهيم، ويحدث أن يتوفى أحد التوأمين اثر حادث، هو سعد ويبقى سعيد في بيت أهل هند.
وبعد مرور حفنة من السنين تطرق بابها اثنتان من النسوة المتشحات بالسواد:
(- لكن هيبتكما تدل على انكما من هناك.

  • نعم قدمنا من إيران، إلا أننا في الأصل عراقيتان، ما بالك هناء؟ ألم تعرفيني بعد!؟
    وقع نشيج كلماتها كالرعد على أذني، فصحت مهتاجة:
  • أمعقولة… يا الله…أمعقولة (ونهضت من كرسيي نحوها معانقة باكية ) أنت هند؟… أأنت هند؟ أهذا معقول؟ كيف.. أنت هند؟ نعم انت هي !)ص 100
    وننتقل الى حكاية هند، وحياتها هناك في مخيمات اللاجئين، وفقدان رياض بين أروقة التعذيب، واختفاء اخباره وزواجها هناك، واحداث كثيرة وكبيرة حدثت لها، ونتابع حكاية وفاء أخت هناء، وكذلك حكاية ابنة وفاء، وحكاية نور مرة اخرى التي جاءت مستنجدة بهناء من أجل أن تهاجر الى الاردن.
    وهكذا نعيش حياة النسوة في هذا النص السردي، ومعاناة هناء وتعبها وقساوة الحياة عليها التي امضتها وهي تعيش حكايتها وحكايات النسوة اللواتي مررن بحياتها:
    (ولجت هناء الخصيب باحة الدار، وعلى وجوه تعتمر الحزن والوجوم سارت نحو حجرتها، ارتمت متهاوية على الفراش، أسدلت جفنيها مستسلمة، تسلل الخدر إلى جميع أنحاء جسمها، تراخت حواسها وقواها، تلاطمت الصور في شريط سريع ، مرت حياتها أمامها صوراً جلية متتابعة بأمان تام… نور ساطع يأخذها نحوه، تخذلها الجاذبية، فتحلق خفيفة روحها نازعة عنها أسمال خمسين عاماً.)

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة