الغرائبية وجنون النص … في رواية شوقي كريم ( ثغيب )

محمود خيون

بعد أن أنهيت قراءتي لرواية(ثغيب ) للمبدع شوقي كريم حسن تذكرت ما قاله المفكر والكاتب منير ابراهيم تايه في معرض إجابته على سؤال:- ما الكتاب الذي قرأته ومايزال ماثلا في الذاكرة؟!..

يدفع بي السؤال إلى ركام من العناوين والاسماء، لكن عند رواية( الساعة الخامسة والعشرون ) للكاتب الروماني قسطنطين جيور جيو، كونها تدفع إلى الكثير من الأسئلة حول مصير الإنسان المعاصر المنسي في الذل والحروب…ولعل( الساعة الخامسة والعشرون ) أحد أكثر الأعمال السردية الباعثة على أسئلة حول المصير المأساوي للانسان.. فالقراءة ليست فقط غوصا في عالم إفتراضي إنما هي نحت في الصخر بحثا عن القضية التي تقبع في ثنايا الأحداث، كثيرا من الروايات يتلاشى حضورها من الذاكرة بمرور الأيام وتصبح إستعادة اجوائها صعبة…وربما شبه مستحيلة، وقليل منها يدفع الذاكرة بختمه الأبدي، ومن ذلك القليل النادر رواية( الساعة الخامسة والعشرون ) ..ويشير الباحث إلى أن مايجعل من الأدب جزءا من الحياة، أنه حافظ للتراث موثق للحاضر، وفي نفس الوقت يتوقع المستقبل ويتنبأ بأحداثه، فالادب ليس مجرد قصص رومانسية وتخيلات غير واقعية…في أحداث روايتنا هذه توثيقا لتأريخ لم تكتبه الصور ولم تسجله الأفلام ولا أقلام المؤرخين، لكنه يجوب بنا في قلب أحداث مروعة ويدخلنا في مناطق موغلة السرية والخطورة….تجعلنا ندرك معنى الحياة فوق خطوط النار وفي قلب آتون الموت….أن هذه الرواية حية، مازالت نابضة كألم عميق، في قلوب كل من عاشوا الحروب ومازالوا لأنها عرت الوجه الحيواني للروح الإنسانية أنها فوضى العقل والعاطفة، والمناهج المضللة والنواميس الجوفاء….ويذكر الكاتب منير تايه بقول الفيلسوف الفرنسي جابريل مارسيل، لا أظن أن من اليسر إيجاد عمل فني أكثر تعبيرا عن الوضع المريع الذي تجد الإنسانية نفسها غارقة فيه اليوم مثل رواية( الساعة الخامسة والعشرون ).. 

هكذا إذن ننظر إلى أدب شوقي كريم حسن في كل ما يكتب، فهو كل مرة  يسترجع ذلك الواقع المأساوي الذي عاشه بكل ما يحمله قسوة وشغف في العيش وفي كل شيء…وهو الوحيد من الكتاب إستطاع أن يمزج بين أسلوب التداعي( الفلاش باك ) العودة إلى الماضي وبين أسلوب المونولوج والمونتاج، وتلك عملية ليست باليسيرة وتحتاج إلى دراية وحبكة فنية وحرفية ونباهة…فهو يعيد أيام العسكرية والقهر الروحي والعيش بين الصرائف والبيوتات الطينية الغافية على ضفاف نهر مدينته في الجنوب…عشقه الخفي الممنوع وخوفه من عيون المخبرين وهي تلاحق خطواته بحذر وريبة…ويمتد ذلك الخوف حتى يشرئب كأفعى داخل نفسه المعذبة والمثقلة بعشرات الأماني الضائعات وحشود من أحلام السنين التي بعثرتها يد الزمان واودعتها في مهب الريح… وهاهي روحه تنحب مثل امرأة مهجورة غادرتها نظرات المعجبين وطوى الدهر مفاتن جسدها وقوامها الممشوق كجذع النخل الباسق وهي تردد( مات جبر الواضح…مات الذي ما بخل علي وما أخفى عني شيئا…مات الذي كان يسد شكرية وحشة الليل، يأخذها إلى صدره، حاكيا لها ما لا يخطر على بال أحد، يضع ضفيرتيها المدهونتين بالحناء والمسك عند منابت صدره الكث مثل زرازير لا تجيد الحراك، مات جبر الواضح، وهو يلهث خلف مخاوف أيامه، شكرية من يبقى لك إذا  ما غدرت  بي الدنيا كعادتها دوما…)..

وهنا تتجدد عند شوقي حالة الهستيريه والجنون الذي عاشه من قبله مارك توين الأميركي الضائع وزميله همبرت همبرت، فهو في هذا المقطع يناجي ” شكرية ” وكانما يتحدث لها عن نهاية حتمية يراها تلوح في الأفق ويبرهن لها ذلك بالتأكيد ( إذا ما غدرت بي الدنيا كعادتعا دوما…)..وكأنه صار وكيلا رسميا لتلقي مصائب الدنيا بعد أن طوحت به رياحها المسمومة ونالت من كبريائه وشموخه الذي كان يراه يداس بالأقدام عند سواتر ترابية وحشود من الجنود وأكياس التراب وهي  تحيط بالخنادق التي صارت ملاذا آمنا للفئران والافاعي والحشرات من كل نوع….

لقد فاقت عبقرية الكاتب شوقي كريم حسن كل تصور في رسم ما يريد قوله بفرشة فنان ماهر، يخط لوحاته الزيتية من دموع ودماء الفقراء وسرابيل احلامهم الوردية التي لونها الزمن بذرات الغبار واحاطها بألوان الخيبة والخسران…وبنفس الصوت المبحوح يعاود ليكمل حديثه إلى ” شكرية ” ( إلى أين تتجهين ومن يطرق بابك بعدي، من يسحب ذيل الليل بعيدا عن طراوة روحك التي ما عرفت غيري…شكرية اعرف اني لام اوهامي وهمومي وراحل… بدأت أرى كل من غادرنا يقفون هناك ملوحين، وجوه كدره نسيت ملامحها وأخرى أعرفها، ملتاعة، تنوح أيامها الأمر من الصبير، شكرية ليلك القادم وحدة وسواد ونواح.. !!)…

أن مثل هذا التداعي الصريح لرجل ميت أو أنه يحتضر بين يدي( ملك الموت ) لهو دليل واضح لحجم المعاناة النفسية والاختلاجات المكبوتة لدى الكاتب نفسه فأراد لها أن تكون من نصيب أبطال روايته ويعيشوا نفس المعاناة، ويتبين لنا أنه أراد أن يلعب لعبة ماكرة في لصق جميع مشاهد الضيم والقهر بشخوصه الاساسين( شكرية وجبر )…وترك الخيار للقاريء والدارس والباحث والناقد لأن يتفقوا على رأي محدد لتحديد مسارات الرواية وخفاياها وطريقة كتابتها بمثل هذا الأسلوب الجديد في الكتابة والذي نجح فيه ماركيز في أغلب رواياته.. واوجزت الباحثة والكاتبة( فاطمة الفلاحي ) ..حياة غابرييل خوسيه ماركيز بالقول…من عرفوني وانا في الرابعة من عمري، يقولون أنني كنت شاحبا ومستغرقا في التأمل، وإنني لم أكن اتكلم إلا لاروي هذيانات٣،ولكن حكاياتي في معظمها٣،كانت أحداثا بسيطة من الحياة اليومية اجعلها انا اكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة، لكي يصغي إلي الكبار،  وكانت افضل مصادر إلهامي هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي لانهم يظنون أنني لا أفهمها، لكن الأمر كان خلاف ذلك، فقد كنت امتصعا مثل اسفنجة وافككها إلى أجزاء، واقلبها لكي أخفي الأصل، وعندها ارويها للاشخاص أنفسهم الذين رووها تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله وما يفكرون فيه  )…

وانا أرى أن هذا الحال ينطبق على كاتبنا شوقي كريم

في اسلوبه وتداعيه للاحداث واختياره لشخوصه والغرائبية في كتاباته وتنقلاته السردية التي لم نألفها عند أي من الكتاب، صحيح أنه من الذين كان للحكاية والاسطورة التأثير الواضح على معالم البناء الفني للرواية والقصة لديه إلا أن الأفكار تتشعب وتأخذ مسارات واسعة في بعض الأحيان.. مثلما كان ماركيز يرسم معالم مدينته( ماكدندو) ..رسم شوقي كريم معالم مدينته ( الغراف ).وضواحيها وصولا إلى المدينة الخالدة الناصرية…( ماكوندو هي المدينة التي اعتاد ماركيز بناءها بكل ما يحمل في قلبه من ذكريات الطفولة وبيت النمل وحكايات الجدة، والموتى الأحياء، وبالنبرة ذاتها التي كانت تحكي بها الجدة الحكايات.. تحدث ماركيز عن الحرب والعنف وضياع المباديء وسط الثورات الدامية والخلافات الايدلوجية التي كانت تفتك ببلاد..هذه القرية المعزولة في أميركا الجنوبية( ماكوندو) تجري فيها أحداث غريبة غير واقعية لكنها تنخرط في سياق طبيعي ضمن الرواية دون إستهجان من شخوصها ومن هذه الأحداث، عودة الأرواح بأجسادها إلى الحياة مرة أخرى مصرة على التعلق بأماكنها ومقتنياتها )…

ومما تقدم فأن ما ورد من أفكار وحكايات تتطابق من الناحية السيكولوجية والتشابه وتوارد الخواطر والأفكار وتوافقاتها من خلال حوارات شكرية وطيف جبر الميت في تداعيات غير مسبوقة ( مات جبر الواضح، استنجدت شكرية بالفراغ، الذي عرفت أبعاده ومزاياه…)..ثم يجيء نداءها المبحوح( تعالوا ساعدوني.. مات فجأة  ،بعد أن وضع رأسي في حجره، واوصاني بأن لا احزن لأنه ذاهب من أجل ترتيب مكان عيشنا الجديد…كان مبتسما برضا على غير عادته، همس مازحا….شكرية إذا شفت هناك حور عين جميلة ربما اتزوجها وانساك…!)..،

في هذا المقطع وغيره برع الكاتب شوقي كريم في عملية مزج الواقع والخيال والماضي بالحاضر..او حضور الغائب بعد غيبته، وهي عملية تكاد ترقى إلى مستوى كبير في البناء الفني للروية وهي قدرة لايمتلكها إلا النادر من الكتاب..وأن عملية التلاعب بانسيابية السرد وتسلسله من خلال دخول عوامل التداعي ليس بالشيء الهين ويتطلب مهارة كبيرة وحرفية عالية الدقة..

عرفت شوقي كريم بأنه من أكثر المتحمسين إلى عملية اجترار الماضي بكل مايحمله من مرارة وقسوة وألم وحزن وارباك نفسي وعقلي يشده إلى تلك القرية في أحضان الجنوب وهي تغفو على أحزان الناس وحسرات الثكلى والأرامل وهن يتلمسن برودة الفراش حين يخلو من دفء الرجل الغائب ….

أقول ليس باستطاعة أي ناقد أو باحث أن يقف عند حدود واضحة في إعطاء رواية ” ثغيب” حقها من الدراسة والتحليل فهي ملحمة كبرى امتزج فيها صوت الكاهن مع أصوات خافتة تصدر من أفواه يمزقها الجفاف شكرية وجبر وميري.. 

وانا أقف مع رأي الباحث والناقد الكبير فاضل ثامر حين وصف ” ثغيب” بأنها بحاجة إلى قاريء من نوع خاص يمتلك معرفة بتأريخ الحضارات العراقية القديمة فضلا عن تأريخ العراق السياسي وتناسل اشكال الاستبداد والقمع والعنف فيه…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة