هكذا هي الصواري المبدعة

منور ملا حسون

كان مشعله الترتيلة الأزلية (كركوك) و لم تنضب حروفه يوما من مرارة الألم .. تلك الحروف التي لم ترهقها المخاضات إذ تركت آثارها في شعاب روحه الرهيفة ليترجمها إلى قصائد تستنطق تلك المخاضات وسكون الألم. فقيدنا الراحل الأديب قحطان الهرمزي ، انحسرت برحيله خارطة الأدباء الأفذاذ (النخبة ) . هكذا هي الصواري المبدعة، تتلاشى شيئا فشيئا ..   إنه (الهرمزي) الذي تنتمي هويته إلى الآلام و حمل مرارة الحياة المثقلة بهموم شعبه وأوجاع مدينته .

 لقد ترك فقدانه لفلذة كبده الشاب الأصيل (بايقال) أثرا عميقا في دواخله. (بايقال) الذي غادر عتبة الطفولة ومرتعها، صوب الاغتراب. فانتزعته يد المنون من حياة والده الفقيد ليتركه وسط تلاطم أمواج الحزن القاتل. ولأنه كان يعانق فلذاته عناقا رحميا كعناقه لوطنيته ، عناقا لا يعرف المهادنة.. كتب عام 1958 قصيدته ( أيام شديدة البؤس ) التي توج بها ديوانه الصادر عام  1962:

هنالك ثلاث كلمات

ثلاث كتبتها بهالة من النور

وودت لو علمتها لأطفالي الصغار

الذين سوف يولدون

(حرية

      اطمئنان

                حب)

فإذا حدث وأدركني الموت

فلا ضير من أن تمنحيهم

ما كنت أتمناه

وكان يمتلك قدرة عالية في تخيل المشاهد، ليبثها في متون قصائده بدمع العين ودم القلب. حتى أن حروفه تئن من ثقل همومه التي أفرزته أيام المنفى وتطلعاته التي تمخضت عنها معاناته من أجل أبناء جلدته حتى آخر لحظة من حياته التي أغمض فيها عينيه عن الحياة .

كان يسكن أعماق (الهرمزي) الراحل شعور فلسفي (أننا جئنا إلى الحياة غير مخيرين و نذهب غير مخيرين إن طوعا أو كرها ) لذا كان يلملم حزنه ليصوغ منه قصائد كأنها قلادة أحزان في جسد الليل ، تقطر بالتراتيل الحزينة.

كان رحمه الله من رواد قصيدة النثر، و قد أعطاها هويتها وبث فيها روح الحداثة و المعاصرة بلغة شفيفة تتعامل مع الوجدان . وتناولت أقلام معظم الأدباء والكتاب المعروفين سيرته الإبداعية.

و كان بينه و بين مدينته الأثيرة (كركوك) حبل سرّي يمده بكل مقومات القصيدة والقصة والمسرحية . تلك الأنماط الأدبية التي أبدع يراعه فيها .. ولأنه كان الحالم دوما بوطن ينام مطمئنا..!  ارتفع صوته الوطني في كتاباته التي تتسم بطابع الألم.. ذلك الإحساس الذي صار جزءا منه ، يلهمه فيوظف تلك الأحاسيس في صياغة كتاباته كخميرة صالحة في التعبير عن الألم و المعاناة التي تخزنها دواخله، كردِّ  فعل لما يحمله من عبء من اجل شعبه ونضاله في سبيل أن تبقى الراية مقدسة في علوها .

 ومنذ بداياته وهو يخطو إلى عالم الشعر والأدب كان يترجم ألمه في كلمات تعبر عن الانتماء والهوية.. وفي قصيدته (العائدون والجدار ) في ديوانه (أيام شديدة البؤس) يحمل هم مدينته و رؤاه الإنسانية ليصبها في قالب شعري ينساب إلى ذهن القارئ بعذوبة:

مدينتي تجوع للضوء الجديد

والساقطون يزرعون حقدهم

ويكثرون من السجون

(يا أنت يا مدينتي

ـ جاء الصباح ـ استيقظي

واملئي عيونهم

بالتراب والطاعون والحصى)

وزنزانته التي أفنى فيها معظم أيام شبابه ومرارة المنفى ، منحتا صوره الشعرية فضاءات تكمن فيها البوح بأسلوب سريالي، يتسامى فكرا ولغة وصورا تراجيدية مأخوذة من الواقع الأليم في بناء درامي لقصصه ومسرحياته .

أيها الراحل الحاضر بيننا .. أنت الآن شاهد صامت أتعبتك الأسفار وأنت تحمل عذابات السنين التي كانت جزءا من كيانك .. مضيت وحيدا تاركا كلماتك الحائرة وهي تحاول إخفاء صراخها في حطام الأيام .

عزاؤنا في رحيلك، إرثك الأدبي الذي بث الروح في الثقافة والأدب التركماني والعربي لإدامة التواصل الروحي بينك وبين الأجيال…     

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة