عزلة

نبيل جميل

مساءً عاد الناقد إلى بيته، كان يتأبّط صحيفتين، دفع باب الحديقة ودخل، توقّف لحظة، نظر فيما حوله، ثم واصل خطاه، عند عتبة الباب الداخلي تعثّر وكاد يسقط، استند إلى الباب، وبيد مرتجفة أدار المفتاح ودخل؛ اتّكأ إلى أحد أضلاع الباب وأخذ يفرك ظهره، أثناء انحنائه لفتح رباط الحذاء فقد توازنه وتكوّم على الأرض، سقطتْ نظّارته وأفلتَ الصحيفتين، استند إلى الحائط، ترنّح بخطواته، ثم زمجر غضبًا: (تفاهات، قبح، هذا ليس نقدًا، إنّه براز قطط).

أخذ يسبّ ويشتم، ثم صاح: (أين تهربون! انتظروني)، ومثل بهلوان فقد السيطرة على حبل سيرك، تمايل وسقطَ على السجّادة. وحين اعتدل في جلوسه، تخيّل دخول أشخاص لا يتذكّر أين رآهم، حاول فتح عينيه أكثر للتركيز، لكنّهم تخطوه وجلسوا على الأرائك. أشار جهة الزاوية البعيدة، وقال: (أرجوك أستاذ، الأسئلة فيما بعد؛ الصفّ الأخير هدوء رجاءً)، كان يمطّ في اللفظ ويتعثّر بالمفردات، ذكر بعض نظريات النقد، ثم بعد أن أنهى ندوته المتخيّلة، نهض بصعوبة وجلس على الأريكة محنيّ الرأس، بعدها تمدّد ونام.

في الطابق الثاني، خلع ابنه نظّارة القراءة، دعك عينيه وتمتم: (متى تكفّ عن الخمرة، اللعنة عليك)، وفي غرفتها همستْ أخته الوحيدة وهي تقترب من أمّها: (إلى متى نتحمّل).

بكرسيّها المتحرّك اتّجهت الأم إلى الصالة، اقتربت منه وقالت: (إلى متى تبقى معزولاً عنّا، كأنّك ما زلت أعزب، ألم تعِ بعد بأنّك متزوّج ومسؤول عن أسرة)، ثم تركته بكامل ملابسه نائماً، ومزيج من رائحة خمرة وثوم تفوح مع أنفاسه، وعادت لتكمل فيلم السهرة.

اقتنع الابن بما أبلاه من جهد في المذاكرة، أغلق كتاب الأحياء، تمطّى ثم نهض، وهو يفكر بما قرأه عن الافراط بالكحول وتسببها بتليّف الكبد، اتّجه إلى النافذة، أزاح الستارة وفتح درفتيها، سحب كرسيًا وجلس بعد أن أطفأ النور، مدّد ساقيه في استرخاء، أغمض عينيه؛ لحظة صمت، ثم تراءت في ذهنه فكرة قتل أبيه (أخنقه وهو نائم، يكفينا مريض واحد في البيت)، تخيّل نفسه يتحرّك ببطء، يتحسس طريقه بحذر، يمسك بذراع السلّم الساج، يخفّف من توتّره ويصغي، وحين يطمئن من نوم أمّه وأخته، يهدأ قليلاً ويفكّر: (سأقترب منه، كالعادة سيكون في نوم عميق، أكتم أنفاسه بقوّة وأحافظ على عزيمتي)، خفيفاً أكمَلَ نزوله المتخيّل، اقترب من غرفة أخته، الصمت يغطّي كل شيء، خطا نحوه وبيده منشف حمّام صغير، اقترب منه وكتم على أنفه وفمه، لم تند عن أبيه أيّ حركة، بقي هامدًا على ظهره فوق الأريكة. شعر بزهو بعد إنجاز المهمّة، لكنّ وخزًا خفيفًا في الصدر، جعلهُ يجثو على ركبتيه ويدفن وجهه في صدر أبيه، غزاه شعور بالعاطفة وأراد أن يبكي، في منتصف السّلّم توقّف، فكّر برمي أبيه خارج البيت.

    (لا بدّ للنهار أن يحلّ، ويكتشفوا الجريمة) قال في داخله، شعر بعطش، أغلق النافذة، أسدل الستارة، فتح النور، نزل إلى ثلاجة المطبخ، صوت التلفاز كان يأتيه من غرفة اخته، ارتشف علبة كولا، وخطا حيث ينام أبوه، كان يتمنّى أن لا يراه هامدًا مثل جثة، ورائحة تفسّخه تملأ المكان. بيد ان الفكرة ما زالت تعوم في ذهنه، لكنّه ردّ على نفسه: (إنّها مجرد فكرة، لا يمكن أن أفعلها، إنّه أبي). قبل أن يصعد لغرفته، نظر إليه بحقد وهمس: (كم أتمنّى أن أراك ميتًا).

*    *    *

   طوى الابن ليلته، اغتسل، تناول إفطاره وقوفًا في المطبخ، ثم عاد إلى غرفته للمذاكرة، فهذه المرحلة مصيرية في تحديد الكلية التي يرغب في دخولها، أمّا أخته فمازالت نائمة، إلى جانبها أمها مفتوحة العينين تجاه السقف؛ تسترجع ذكرى اصطدام سيّارة العائلة بعربة حمل كبيرة، (رحماك ربي) هذا ما ردّدته عندما فتحت عينيها، بعدها بساعات علمت بأنّ زوجها كان السبب، فالتقارير أثبتت قيادته للسيارة تحت تأثير الكحول.

     طوال الأشهر الماضية، لم يتمكّن الأطباء من معالجتها، حتى في الخارج تعثّر العلاج، بسبب تلف جزء كبير من الحبل الشوكي، (سأبقى إلى جوارك مهما ابتعد بنا الزمن)، تتذكّر وعوده وتلتفت إلى ابنتها، تمسّد رأسها وتهمس: (أنا بجوار زهرتي الجميلة التي لم تفارقني)، ثم تعود للنظر إلى السقف وبصوت مسموع قالت: (آه.. لقد تأخرت، أيّها الموت تعال وخذني)، استيقظت ابنتها (صباح الخير ماما، ما هذا الدعاء؟)، (صباح الخير، لقد تعبت وأتعبتكِ معي).

*    *    *

     لم يهتم بتهكم زملاء العمل، ولا بكلام المدير أثناء استدعائه، (إنّها حياتي الخاصّة، إذا كان لديّ تقصير في العمل فلك الحقّ باستخدام الأوامر الإدارية)، لم ينزعج المدير منه، فهما صديقان منذ سنوات الجامعة، والآن تربطهما علاقة عائلية وزيارات متبادلة، فزوّجته ابنة عمّ المدير، لذا ومن باب المسؤولية الأخلاقية والمهنية، يتدخّل المدير دائماً بشؤونه الخاصّة، ناصّحاً إيّاه بترك الخمرة، بيد أنّه قبل نهاية العمل يقدّم اعتذاره: (ما نحن بأعداء، وما حرصي عليك إلّا من باب الصداقة القديمة، أكثرنا أخذته دروب اللهو والسهر، لكنّها مرحلة ومرّت، أرجو أن تفكّر بكلامي)، هزّ رأسه وابتسم (لا تهتمّ، مجرد نقاش، ومهما يكن فأنت الآن مديري المباشر وعليّ أن أستمع إليك هنا، لكن عليك أن تعرف بأنّ الوظيفة لديّ مجرّد تأمين معيشة فقط، لأنّني أشعر بها كالقيد يخنقني، حياتي هناك حيث الكتب، وأنت تعرف هذا ورأيت مكتبتي العامرة، هل لديك علم بأنّ كتبي النقدية وصل عددها إلى أربعة، ومقالاتي تملأ مواقع الانترنت)، انسحب المدير بعد أن نظر في ساعته، مودّعًا إيّاه بابتسامة، لأنّه لا يريد للنقاش أن يطول. وفي الممرّ كان يفكّر (يا له من وهم، هه، ناقد كبير، يعزل نفسه في غرفة ويترك عائلته كأنّهم غرباء، وهو من تسبّب بأكبر مأساة لابنة عمي المسكينة، عاجلاً أم آجلاً سيكتشف بأنّه ضحية وهْم كبير مثل غيره من الذين تكاثروا بفضل الانترنت، وأنّ ما يدور حوله من تعليقات جاهزة ومتشابهة في الفيس بوك، ما هي الّا ركود وتدنٍّ في مستوى وعي أصحابها، الذين ظنّوا بأنّهم أدباء ومثقّفون).

*    *    *

ها هي السنة الأولى تمرّ على الحادث الأليم، الابن لم يتمكّن من دخول الكلّية التي يرغبها، فاضطرّ إلى إعادة السّنة، البنت بصعوبة نجحت إلى الرابع الثانوي، الأب ما زال يعيش في عزلة، ويبحث عن دار نشر.

في ظهيرة جمعة، وبينما كانت ابنتهما تشوي سمكتي “كارب” بتنور الغاز، قالت له زوجته أثناء جلوسه في ظل شجرة البمبر: (أنت تذكّرني بعنوان رواية ماركيز “ليس لدى الجنرال من يكاتبه”)، لم يلتفت إليها، بقي على وضعه يقرأ في كتاب (موت النقاد)، وإلى جانب إحدى قدميه غفتْ قطة هرمة.    

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة