لقاء الحضارات

محمد زكي ابراهيم

يعد الكثيرون أطروحة صامويل هنتغتون الشهيرة “صدام الحضارات” تكريساً لنزعة الهيمنة عند الغربيين. ويشعرون بالخطر منها على وجودهم، وإرثهم القديم. ويقترحون بدلاً عنها “حوار الحضارات”. ويبدو أن هنتغتون لم يراع مشاعر الغير بتسميته المفرطة بالقسوة هذه، ولم يحاول إضفاء نزعة “إنسانية” عليها. وكان يمكن أن يطلق عليها تسمية أخرى أخف وطأة مثل “لقاء الحضارات” التي استخدمها أرنولد توينبي قبله بأربعة عقود تقريباً.

ومع ذلك فإن هذا اللقاء لم يكن سلمياً في معظم الأحيان. بل ترافق في الغالب مع حملات عسكرية متواصلة. وكان الطرف الخاسر يفرز نوعين من ردود الأفعال، أحدهما يتمسك بقيمه الأصلية، ويدافع عنها بقوة. أما الثاني فيهرع لتقليد المنتصر، ويأخذ عنه فنونه وأسراره وأسلحته، لأنها بنظره الوسيلة الوحيدة لمواجهته في قابل الأيام.

في القرن السابع الميلادي استطاعت الحضارة الإسلامية أن تفتح عدداً من البلدان الشرقية التي كانت تحت هيمنة مسيحية، من سوريا شرقاً حتى اسبانيا غرباً. وكانت هذه البلاد واقعة تحت حكم يوناني أو روماني مدة ألف عام تقريباً. كما أن الحملات التي اتجهت شرقاً لم تتوقف خلال تلك المدة. وقد تواصلت حتى القرن الخامس عشر، فخضع العالم الأرثوذكسي برمته للدولة الإسلامية. غير أن الإسلام ما لبث أن انتشر بطريقة سلمية في أنحاء شاسعة من آسيا في أندنوسيا والصين، وفي أفريقيا الاستوائية أيضاً. وفي جميع هذه الأحوال كان الطرف المغلوب يسعى لتقليد الغالب، في معارفه وقيمه ولغته وتقاليده. ويرى بعض المؤرخين أن أوربا كسبت المواجهة مع العالم الإسلامي، بامتصاص ما لديه من نزعة حضارية وعلمية،  تمثلت بطرق التفكير والتعليم وبناء المدارس والجامعات وتسيير الأساطيل للتجارة والحرب.

وربما كان أوضح مثل على المقلدين في البلاد الإسلامية محمد علي في مصر وكمال أتاتورك في تركيا. فقد عمل الأول خمسة وثلاثين عاماً على إدخال الحداثة الغربية إلى بلاده، في حين بالغ الثاني في إلغاء كل معالم الحضارة والشريعة الإسلاميتين. واستبدل الحروف العربية باللاتينية. فأسدل الستار عملياً على التراث التركي القديم، الذي بات بسبب ذلك غير قابل للتداول.

كان هناك زعماء آخرون، رفضوا الأخذ عن الأجنبي. وقارعوه بكل الوسائل، مثل الإمام يحيى في اليمن، والسنوسي في شمال أفريقيا، والمهدي في السودان. وكانوا يرون أن بعث الهوية الوطنية أو الدينية هو الكفيل بتحقيق النصر على العدو. وربما كان المثال الناصع لنجاح هذه الفكرة يتمثل بالمهاتما غاندي، الذي وفق في النهاية بطرد بريطانيا من الهند..

لقد كان من الغريب أن ينتقل الصراع بين الحضارات المتصارعة إلى أبناء البلاد أنفسهم. وأن ينسى هؤلاء المصدر الحقيقي للاختلاف. فليست هناك الآن حرب شعواء بين الغرب والشرق، بل بين الشرقيين المحافظين والمقلدين أنفسهم. وهذه إحدى المفارقات التي لم يحسب حسابها أحد، ربما لأن أولئك الذين أشعلوا نيرانها في البداية كانوا يريدونها حرباً بالوكالة، وقد تم لهم ما أرادوا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة