أحمد الناجي
حظيت مدينة الحلة بمكانة تاريخية وعلمية وأدبية متمايزة، منذ بداية تأسيسها سنة 495هـ/ 1101م، وقد أفضى منحى انتعاش الحياة الأدبية والثقافية الى انتقال المرجعية الدينية اليها من النجف أواخر القرن السادس الهجري، وبذلك أصبحت الحلة هي المركز الديني للشيعة مدة قاربت نحو أربعة عقود (562-951هـ/1167-1544م)، وتحولت المدينة الى مركز ثقافي تتلاقح فيه الأفكار والأطروحات من مختلف الاتجاهات، ويقال قد اجتمع فيها من أبنائها بالإضافة الى من وفدوا اليها طلباً للعلم خلال عصر واحد نحو (400) فقيه وعالم ديني، فانتعشت فيها حقول المعارف الملازمة للدراسات الدينية، كاللغة العربية والمنطق والشعر، وقيل بأن الحلة أصبحت مكتبة كبرى عامرة، حيث ازدهرت فيها صناعة الكتاب، وتعزز دور الخطاطين والوراقين والنساخ، وتكرست مهنة الوراقة، ونال الكتاب بوصفه مستودع الثقافة وناقلها اهتماماً ملحوظاً من لدن الحليين، ولذلك كله، تميزت بثرائها الثقافي والأدبي والفني، وتبدت تجليات ذلك العمق التاريخي بما أنجبته من أسماء لامعة على مدار الأزمنة، وبما تجلى بائناً في المنجز الإبداعي المتحقق على يد عدد من الحليين من العلماء والأدباء والأكاديميين في التاريخ المعاصر، ويعد الدكتور نعمة رحيم العزاوي (1936-2011)، واحداً من الحليين، ممن أسهموا في رفد الحياة الثقافية والأدبية العراقية بمنجز تدويني مبهر. وقد ولد في مدينة الحلة بأحد بيوتات محلة المهدية، العريقة والحافلة بالبيوت التراثية ومراقد العلماء والأولياء الصالحين، حيث دفنوا بجانب مدارسهم العلمية المتجاورة الى تلك البيوت، التي تحمل هيبة الماضي وتحكي عن أدق تفصيلات العمارة في أيام زمان، حيث تكتشف في شواهد شاخصة عن روعة التصاميم العتيقة وجمالية الزخرفة، ومن بين تلك الفناءات العابقة بروائح التاريخ، يتردد صدى الكلمات من منعطفات الذاكرة، يومئ الى صروح أبنية المعاني، المتبدية بالأثر الكتابي في نتاج هذه الشخصية المعروفة بوضوح البيان بين أوساط اللغة والأدب، والتي تملأ الروح غبطة إذا ما رغبت في استذكارها، وتشعرك بالانتشاء حينما تنظر الى ما حازت عليه هذه الشخصية الأكاديمية من امْتِلاء معرفي تبدى في إثراء اللغة العربية، عبر منجزات مبهرة في مجال النقد اللغوي والمناهج اللغوية والمعاجم.
عاش مراحل حياته الأولى في أجواء محلته الشعبية (المهدية)، منذ فجر الطفولة وصولاً الى مرحلة النضوج، ونال قسطاً من التعليم الأولي في أحد الكتاتيب الذي كان يديره الشيخ رضوان الهيتي، فختم على يديه قراءة القرآن الكريم، ومن ثم دخل المدرسة الشرقية الابتدائية. وفي تلك الآونة -وهو في مرحلة الصبا، كان يرافق جده الى مجالس العزاء الحسينية، وقد انجذب نحو الاستماع الى قصائدَ الرثاء الحسيني، فتنامت لديه بمرور الوقت ملكة حفظ القصائد ومقدرة الإلقاء، فانبهر بدور الخطيب في مجلس التعزية، وتمنى أن يؤديه، فكان الجد له مسانداً، وزاول الخطابة الحسينية في تلك المرحلة متطوعاً، وهو طالب في المرحلة الابتدائية بعمر الثانية عشرة، وكان يرتقي المنبر قبل الخطيب، مرتدياً الزي العربي التقليدي (الكوفية والعقال)، ويقوم بقراءة (المقدمة) في مجالسِ كل من: الشيخ جاسم الملا، والشيخ جواد فاتي، وصار خطيباً مفوهاً على قدر مهمته القصيرة الأمد في التمهيد للمأتم الحسيني بقراءة أدعية وقصائد الرثاء، وأخذته قدراته في براعة الإلقاء كذلك الى أن يلقي في المدرسة تحية العلمِ كل خميس, إلا أن ذلك النزوع قد انتهى بعد اكمال دراسته في المرحلة المتوسطة سنة 1950، والثانوية سنة 1953، وبانت عليه تأثيرات مزاولة الخطابة وحفظ عشرات القصائد الشعرية على نحو إيجابي، إذ استحوذت اللغة العربية على اهتمامه، وأراد أن يكون متضلعاً بها، فعقد العزم على خيار دراستها في الجامعة، وانتظم فعلاً سنة 1954، بقسم اللغة العربية في دار المعلمين العالية ببغداد، وأكمل تعليمه بنيل شهادة الليسانس متفوقاً كالعادة، ومن الأوائل سنة 1958، وتصدى الى مهنة التعليم مدرساً في مدينته الحلة منذ سنة 1959 حتى سنة 1968، ومن ثم في تلك الأثناء انتدب للتدريس في المملكة السعودية، وبقي فيها لغاية سنة 1971، وكانَ في أثناء تلك الفترة يحضر لإكمال دراسة الماجستير في القاهرة بكلية الآداب جامعة عين شمس، إلا أن الحظ لم يسعفه على اتمام ذلك المبتغى. ولكن بعد عودته الى العراق، أكمل دراسة العليا بكلية الآداب في جامعة بغداد، فحصل على شهادة الماجستير بتقدير امتياز سنة 1974 عن رسالته الموسومة (أبو بكر الزبيدي الأندلسي وآثاره في النحو واللغة)، ومن ثم نال شهادة الدكتوراه بتقدير امتياز سنة 1977 عن اطروحته الموسومة (النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري). وانتقل على أثرها الى وزارة التربية، وشغل عدة وظائف، منها مدير للمناهج والكتب، وعميد معهد تطوير تدريس اللغة العربية، وغيرها، وأتاحت له تلك المناصب العلمية الإسهام في اعداد مناهج اللغة العربية في العراق في مختلف المراحل الدراسية، وشغل خلال عمله الوظيفي مناصب إدارية عديدة. ثم نقلت خدماته سنة 1987، الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للتدريس في كلية التربية (ابن رشد)، وظل مواظباً على العطاء في مساره العلمي، حتى نال درجة الأستاذية سنة 1995. ولم تقتصر جهوده العلمية في القاء المحاضرات على طلابه وحسب، إنما تعدت الى المشاركة بالندوات والمؤتمرات العلمية والحلقات الدراسية المحلية والدولية. كما انه أشرف وناقش بحرص موضوعي، العديد من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه، وتخرج عليه أساتذة يشار لهم بالبنان. وقد أحيل الى التقاعد أواخر سنة 2008. وتوفي بتاريخ 20 أيلول 2011.
وهنا أود أن أسجل له بمداد الفخر والاعتزاز، ولا أظن في ذلك أية مبالغة أو أن أحداً سيختلف معي، حينما أشير الى أن: الأكاديميين في العراق من أهل الاختصاص يتفقون على أن العلامة الدكتور نعمة رحيم العزاوي، لغوي بالمعنى الواسع للكلمة، تبنى في آرائه دعوة التجديد والتيسير في النحو العربي على نحو علمي. فهو صاحب صوت مسموع وله صدى، وقد اختير عضواً في المجمع العلمي العراقي (دائرة علوم اللغة العربية). وكان من أبرز أقطاب اللغة في الوطن العربي، وقد حاز باستحقاق على لقب سادن اللغة العربية وحارسها الأمين، حيث قدم خدمة جليلة للغة العربية على مدار حياته الحافلة بالعطاء، وقد تنوعت اشتغالاته على ميادين التدريس والبحث والتأليف، وتوزعت منجزاته على أغلب مجالات اللغة، وبلغت عدد مؤلفاته قرابة (20) كتاباً في تعليم اللغة وعلمها ونقدها ونحوها وأدبها، ونشر عشرات المقالات والدراسات في الصحف والمجلات العراقية.
الدكتور نعمة رحيم العزاوي.. امْتِلاء معرفي تبدّى في إثراء اللغة العربية
التعليقات مغلقة