البعد النفسي والسلوكي في رواية المراهق لدوستويفسكي

أوس حسن

تعتبر رواية المراهق لدوستويفسكي من أصعب روايات دوستويفسكي وأعقدها؛ لما تتطلبه من لياقة ومرونة فكرية في تتبع أحداثها التي قد تصل إلى الملل أحيانا، ولتفرع الأسماء وتشابكها في الراوية أيضا؛ كما أن الزمن والبنية السردية وتشابك الأحداث وانفراجها، يبلغ مبلغا عظيما من التفكك والبطء، لكنها رواية الجنون والفوضى بامتياز، وفي نفس الوقت هي قادرة على اختراق طبقات عميقة من الوعي.
تتميز رواية المراهق بتفردها الواضح بالبعد النفسي والسلوكي، فهي تقدم لنا شخصية آركادي ماكاروفيتش، الطالب المراهق وما يرافقه من أوهام وآمال وطموحات في ظل عائلته وأصدقائه ومجتمعه، وما ينتج عنها من صراعات داخلية وخارجية، مبرزة بذلك أثر هذه الشخصية الطائشة والمتمردة، وما انعكس عليها من آثار الحياة السياسية والاقتصادية في روسيا القيصيرية والمجتمع البرجوازي.
 تبدأ الرواية التي تتخذ في البدء شكل المذكرات أو السيرة الذاتية بصيغة المتكلم آركادي ماكاروفيتش، والتي يقرر فيها العودة من موسكو إلى بطرسبرج حيث تقيم عائلته،فهو  كما يصف على لسانه  الابن غير الشرعي لفرسيلوف، الشخصية الثانية الأكثر جدلا في الرواية، وأنه في الأصل ابن بستاني من الأقنان الروس.
تبدأ الحياة التي يعيشها المراهق أركادي في ظل عائلته والأجواء المحيطة به من خلال الصراعات مع نماذج إنسانية مختلفة في الرغبات والأهواء والنزوات، فيسعى للتمرد عليها عندما يضع نصب عينيه أن يصبح غنيا كروتشيلد، ويسعى لإقامة علاقات مع طبقة الأمراء والنبلاء.
يقرر آركادي هنا أن يعيش من أجل فكرة، وهي أن يصبح غنيا ويجمع المال بشتى الطرق منها: أن يكون زاهدا ويدخر ماله، ويعيش حياة شبه معدمة، ومن خلال المال يحصل على القوة والسلطة،ثم على العزلة الروحية التي كان ينشدها.
لكنه يصطدم بالعديد من المتناقضات والشخصيات التي تحول دون الوصول إلى فكرته، فهو أثناء عمله مع الأمير سرجي بتروفيتش، يقع في حب ابنته كاترين نيقولايفنا، والتي يعرف فيما بعد، أنها عشيقة والده فرسيلوف، لكنه من خلال علاقاته أيضا، يكتشف وثيقة كتبتها كاترين نيقولايقنا لأحد المحاميين، تسأله عن طريقة قانونية تتخذها لتثبت أن أباها مجنونا بحكم القانون، وتستولي على ثروته، لكنها تعدل عن هذا القرار بعد فترة وتثوب إلى رشدها.

  وهناك أيضا مشاهد وحكايا جانبية يصفها دوستويفسكي بكل ما أوتي من صدق إنساني: منها صدمة آركادي بأحد دائنيه الذي يفاجأ بأنه عشيق أخته ليزا، وأنها حامل منه، ومشهد أوليا أخماكوفا التي انتحرت شنقا في الغرفة التي كانت تقيم فيها هي وأمها من شدة الفقر والعوز، وشعورها بامتهان كرامتها لأنها استلفت مالا من فرسيلوف. يحدث هذا عندما تنهض الأم فجأة في منتصف الليل وتنادي على ابنتها أوليا لتراها واقفة في قلب الظلمة تتأرجح دون رد، ثم عودة ماكار ايفانوفيتش والده الحقيقي الذي طاف بلاد الأرض مبشرا بالمثل المسيحية العليا، والأسرار الإلهية وحكاياه التي يقصها على آركادي وما فيها من عبر وحكم تؤكد على أن منبع الإيمان الحقيقي من القلب والعاطفة.
أما فرسيلوف هذه الشخصية الجدلية في الرواية فهو إنسان مثقف وشاعر ومحب للنزعة الإنسانية الشاملة في الفكر المسيحي، لكنه في نفس الوقت مزدوج الإرادة والمشاعر.
.
تصبح شخصية فرسيلوف محور النزاع الرئيس مع ابنه غير الشرعي آركادي في حب كاترينا نيقولايفنا، لكنه في نهاية الأمر يستولي على قلب آركادي وعطفه من خلال أرائه وأخلاقه وثقافته الشاملة، لكنه في الأخير يسقط ضحية لرغبته وأهوائه فيفقد عقله ويشعر بهذا كل من آركادي وعائلته، عندما يقوم فرسيلوف بتحطيم ايقونة أهداها له ماكار ايفانوفيتش قبل وفاته، وارسال رسالة لكاترين نيقولايفنا يدعوها فيها للزواج.                                                                                             يروي دوستويفسكي هذه الأحداث على لسان المراهق آركادي خلال عام ونصف من حياته، فبعد مضي ستة أشهر على هذه الأحداث نرى أن فرسيلوف قد تحسنت صحته وعاد له عقله، وانتقل هو وعائلته إلى قرية في الريف الروسي، حيث الشمس والربيع وأناشيد الفلاحين، ويبدأ عهد جديد من حياة هذا المراهق المتمرد، وكأن شيئا لم يكن، لكنه حتما كان ذا أثر في الذاكرة وتشظياتها.
يقرر آركادي أن يبعث بهذه المذكرات إلى أحد أستاذته في موسكو، الذي ينصحه أن تكون على شكل رواية شاهدة على مرحلة مهمة في تاريخ روسيا القيصيرية. 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة