يوسف عبود جويعد
تحيلنا المجموعة القصصية (فستان مونيكا ) للقاص فارس الغلب، إلى نوع نادر، قل تناوله في مجال فن صناعة القصة القصيرة، إذ إننا سوف نكتشف طغيان الانزياحات التعبيرية، والاستعارات الفنية، والدلالات الصورية في الرؤية الفنية لمبنى أحداث هذه المجموعة ومسار، وطغيان واجتياح هذا النمط الفني على المادة الخام المستقطعة من حياتنا اليومية من خلال توظيفه ومعالجته ضمن المبنى السردي لمسيرة الأحداث، منذ بدايتها وحتى انتهاء آخر سطر فيها، وهي عملية فنية تتطلب المزيد من الجهد والوعي الدائم الذي يجب أن يتحلى به القاص عند تدوين مادته القصصية، كون عملية تغير الأحداث الاعتيادية ولغتها وجعلها لغة انزياحية قريبة من النثر أمر يفرض على القاص أن يحافظ على أدوات القص التي تستخدم في مجال صناعة القصة، ورغم تماهي وانصهار الأحداث والشخوص والزمان والمكان، وحتى الثيمة ضمن عملية الانزياح، إلا أننا لا يمكن تغافلها أو إهمالها أو أخراجها من متن النص، لأنها أدوات أساسية ولا يمكن للقاص أن يدون قصه بدونها، ومن هنا فإن القاص فارس الغلب أستطاع إظهارها ضمن العملية الانزياحية، أي أنه نقل هذه العناصر والأدوات من القص الاعتيادي إلى القص الانزياحي المفعم بالحس الشعري والمتأثر بدورة الأحداث ، وهذا التأثر هو واحد من الأسباب التي تحيل البناء الفني للقصة إلى مجموعة من الأحاسيس والمشاعر والمؤثرات والتفاعلات الفنية التي تتوحد وتنصهر في بوتقة واحدة من أجل الوصول إلى هذا النمط الفني، وعلى القارئ في هذه الحالة أن يغير أدواته المعرفية القرائية، وينتقل مع النصوص السردية نحو انزياحتها واستعاراتها الصورية ولغتها الشعرية وفك طلاسم هذه المفردات، لكي يستطيع أن يمسك بالخيط الذي يسهل عليه مهمة الاطلاع، وبهذا يكتشف أنه يحتاج لهذا التنوع من السرد القصصي الذي يشحن الذهن، ويجعله متقداً ومتابعاً للامساك بتلابيب تلك النص وسبر أغوارها والوقوف على مجرى الأحداث ومعرفتها بشكل آخر مختلف، كما تميزت تلك المجموعة القصصية بطغيان حياة البادية على النصوص رغم إنها دونت بهذه اللغة، إلا أن هنالك إشارات سيميائية ومفردات عربية تداولت في بيئة أهل البادية، مما يعدّ هذا عنصراً آخر يضاف إلى ما قدمه القاص من معالجات فنية في مبنى السرد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن القصة القصيرة عندما تكتب من البديهي أن يجد القاص صعوبة، ويحتاج إلى جهد من أجل جعلها تنتمي إلى جنسها وهويتها كونها واحدة من الفنون الصعبة وهي فن التكثيف الصعب، وتلك الصعوبة هي التي تمنحها هويتها وجنسيتها وتجعلها تنتمي لهذا الفن.
ولكي نكتشف ما ذهبنا إليه في هذا المبحث سوف نختار نماذج قصصية من هذه المجموعة، ونرحل معها لنكتشف عوالم هذا النمط، في قصة (وترٌ للملح والصهيل) نكون مع ابن عشوا وهو سارق خيول في البادية، وكانت مهمته أن يسرق الحمدانية وهو اسم لفرس أصيل، وهو يهم بسرقة هذا الفرس يقع في يده فص ملح ويلتهمه دون أن يعلم، فيحس أنه التهم ملح من هذه الديار، ومن التقاليد المتبعة لأهل البادية أن التهام الملح يعدّ حالة تمنع السارق من القيام بسرقته:
(تأكد أنه امتصَّ ضرس ملح لذعَ لسانه! ماذا يفعل في ليل عاقر والمفتاح بيده؟ بمقدوره امتطاء صهوة الحمدانية، والغياب في لجة الليل رسنها بيده إن أراد ذلك، لكنه أكلَ ملحة البيت، حتى وان كان تذوقاً عابراً، ليس من عين رأته خلا عين الله.. هو طبعاً لن يخون الله والعرف!!) ص 14
في قصة (أنامل هتشكوك في شبار) يقدم لنا القاص رؤية فنية غاية في الدقة، عن حياة الرعب التي طغت حياة الموصل وقراها ومدنها، وينقل لنا النيران المشتعلة التي تدك الأرض بسكانها من الطائرات الأمريكية والصواريخ، والرصاص المتطاير من الدواعش، وينقل لنا حرب البقاء، والاحتماء بظل الخوف الرهيب بين الملاجئ والبيوت، والمطاردات القمعية التي تقوم بها جماعات داعش على ساكني هذه المدينة، حيث ينتهي الأمر بطرد بطل هذا النص من بيته ليتخذوه موقعاً لقناصيهم، وينتقل إلى مكان آخر، إلا أن الأمر يزداد صعوبة فيهرع الساكنين هرباً من هذه النيران المخيفة، طائرات تقصف، وصواريخ تدك الأرض، وانفجارات تملأ الأرض، ورصاص يغطي السماء، وهكذا فإن القاص استطاع أن ينقل لنا رؤية هتشكوكية مرعبة لحياة أبناء الموصل أثناء غزو الدواعش:
(نخسنا هستريا الخوف في مثلث ادعيتنا، اللائذ بوحشة سلالم الدار ما أن شرعت صواريخ الطائرات الأمريكية، تدكّ الأعماق، وتوزع أحشاء القشرة الأرضية وما علاها في الأنحاء. كان هشيم إسفلت الشارع ينجّم كتلاً في السماء وتهطل مطراً غرابيب وعرساً يحتفل بحلوى الشظايا وثمة عصف تدفعه عباءات الجهات ينهب أشياءنا، ويصيب النوافذ بعدوى خبل الإعصار) ص 25
في قصة (رنين خلخال الأنا) يقدم لنا القاص رؤية فنية صادقة لحياة أبناء البادية وطقوسهم وحياتهم، وعلاقاتهم العاطفية، فنكون مع فارس همام شجاع من أبناء البادية، وفتاة من البادية في علاقة عاطفية غريبة، أشبه بصراع بين الفروسية والجمال، وحكاية هادئة شفيفة رومانسية بينهما، وهي تحاول سحبه إليها بمفاتنها، وهو يحاول سحبها بشجاعته وفروسيته، ويظل هذا الصراع قائماً عبر مسار السرد إلى نهاية الحكاية، ونحن نتابع من ينتصر الجمال والأنوثة، أم الفروسية والشجاعة، وأخيراً نكتشف أن الجمال ودهاء المرأة ينتصر:
(امرأة واهنة في مواجهة رجل شد من عضده الشيطان. ماذا تفعل لكي تنجو؟ سؤال أشبعه التكرار في لحظات. قفز في ذهنها سحر المرأة الأزلي مكرها الذي هز العروش وأطاح بالتيجان، عشقها الذي خلف الأجيال الانبهار الموشى في جنائن بابل وتاج محل. ومن فورها نهضت برشاقة مثل ظبية تعرض تناسق قوامها. مسحت على امتقاع الخوف وشحنت أساريرها لتلعب دورها بجدارة. حيته بالشهد وغمزته بابتسامة ساحرة سقط على ضفافها (كالمسطول). أوهمته بحب تدخره مذ دق أول وتد لبيته في ثرى الحي) ص 91
أما قصة (فستان لمونيكا لوينسكي) فإنها قصة حملت الكثير من النضوج الفني، حيث نطوف في عوالم متعددة بين الماضي والحاضر، والشيخ الذي يتنبأ بما يحدث والشاب الذي انتحر وأنقذه بطل هذا النص، وحكايته مع الفقر، وقد طغى أسلوب الانزياح على مسار حركة السرد بشكل أكثر وضوحاً:
(يهبط المحاق بجنح غراب، يتسرب في عروق المدينة هلعاً أحوى من صقيع، تسكن لوالب الأشياء عن الدوران، ومن قصره الرابض على التل، ينبثق ريع حضارات ينقّ في الجهات صخباً ولوداً، وزيق فاتحين يبنون مجد الشيطان يتجشأون نملاً أسود ومخالب فولاذ، ارتطام أسود تتداعى ومدناً تُدك، جلبةَ خناقات تّجار عُري وروليت نداء نخاسين يقايضون تاريخاً مزيفاً) ص 67
المجموعة القصصية (فستان مونيكا ) للقاص فارس الغلب، رحلة في سياق فني صعب من سياقات فن صناعة القصة القصيرة، وجهد فني واضح.