صفوة القول

محمد زكي ابراهيم

حينما تصاب الحياة السياسية بمرض ما، يمنعها من إدارة البلاد بطريقة سليمة، ويجعلها تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، فإن مجالات الحياة الأخرى تصاب بالمرض ذاته، وتعجز عن التقدم خطوة واحدة نحو الأمام.

ثمة ترابط وثيق بين مختلف الأنشطة التي يمارسها الناس في البلاد، بحيث لا يمكن الفصل بين الواحد والآخر. ففي ظل الحاجة وتردي الأوضاع المعيشية، لا يسوغ لنا أن نتحدث عن مجتمع فاضل ولا عن ثقافة مزدهرة. والعكس صحيح أيضاً. ويبدو أن حظ الثقافة في بلادنا هو الأسوأ بينها. فهي تعاني منذ سنوات طويلة من تردي العناصر المنتجة لها، ويتضح هذا باتجاه النخبة نحو التغريب، أو استعارة النماذج الثقافية من الخارج.

وقد يجد البعض في هذا القول تجاوزاً على الحقيقة، أو استخفافاً بالتطور الطبيعي، لكن الواقع أن هذا هو ما حدث بالفعل منذ ثمانينات القرن الماضي، حينما دفعت السلطة باتجاه إعلان الحرب على القيم الدينية، التي كانت تمد خصومها بالقوة. ففهم التراث يعني اكتشاف العناصر الفاعلة في التاريخ، وليس البكاء على الأطلال. وقد اتضح في ما بعد كم كانت لهذه العناصر من أثر في تغيير موازين القوة على الأرض.

لقد انحدر الإنتاج الثقافي في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إلى مستوى لم يبلغه من قبل. وظهرت نماذج جديدة منه لم يألفها الناس، مثل أدب الحرب والمسرح التجاري والسينما الخادعة. في حين توقف الحداثيون السابقون، حتى انتهوا إلى أنماط هجينة، ليست بذات جدوى على الأرض. وانساق البعض وراء الأشكال السهلة في الأدب والفن. ولم يكونوا بدعاً في هذا. فالمجتمع برمته اتجه نحو الرفاهية وآثر المنتجات المستوردة من الخارج، على صناعتها في الداخل. وبدأ الناس يضيقون ذرعاً بالعمل الشاق المضني، ويهرعون للحصول على موارد، بأيسر الطرق وأكثرها نفعاً.

لقد فشلت التجارب الاقتصادية المستوردة جميعاً لأنها لم تعتمد المنطق العملي – وهو من أهم عناصر الثقافة –  مثل نظام التخطيط المركزي في الثلث الأخير من القرن العشرين. كما أخفق نظام السوق الحر في ما بعد، وهما شكلان أوربيان جاهزان، في إعادة ترميم الهيكل الاقتصادي في العراق.

ولم ينجح نظام الحزب الواحد، المستعار من الكتلة الشرقية السابقة، في إدارة الدولة. لأن الشورى هي من صميم العادات العربية في مختلف العصور. كما عجزت ديمقراطية الأحزاب الغربية في الحفاظ على التماسك المجتمعي. فدخلت المكونات مع بعضها في نزاعات وحروب داخلية. لأن هذا النظام يحتاج إلى مقدمات لم تتمثل في ضمير الأفراد والجماعات بعد. ولم تستطع نماذج أدبية مستوردة من البقاء طويلاً لنفس الأسباب ومنها مسرح اللامعقول!

وصفوة القول أن البلاد لا يمكن إنقاذها من الضعف والتفكك وسوء الأوضاع إلا باستخلاص الدروس، وقراءة التجارب، من التاريخ. فما يلائم شعباً قد لا يلائم غيره. وهذه هي سنة الكون، ولن تجد لها تبديلا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة