في الانسداد الثقافي

كه يلان محمد

لا تقتصرُ حالةُ الاختناق على مجال السياسة أو الاقتصاد ،وهي ما يدورُ حولها الحديثُ في وسائل الإعلام بالاستمرار بل قد تعاني الثقافةُ أيضاً من الاختناق وإذا كانَ الكسادُ والجدلُ البيزنطي من أبرز أعراض الاختناق والانسداد السياسي والاقتصادي، فإنَّ غياب النقد واستهلاك المفاهيم دون تبيئتها وهيمنةَ المجادلات الشفهية مؤشراتُ تنبئ بركود الثقافة وعدم فاعليتها بحيثُ لا يؤدي النقد إلى القطيعة مع العقول المتأزمة كما أنَّ نقل المفاهيم الحديثة يتحول إلى مجرد استعراض لا يسمنُ ولا يغني من الجوع. إذاً ما يسودُ في ظل هذا المناخ هو الخواء الفكري، وما يبدو نشاطاً ليس إلا تدويراً للإشكاليات لذا فمن الطبيعي أنْ تبوء المحاولات الشحيحة لإنشاء المنظومة المفاهمية التي تعكسُ هموم الواقع بالفشل. وما يؤكدُ الاحتباس الثقافي هو انسداد المنابر والمنصات الإعلامية على أسماء محددة. ولا يتمُ الاعتراف بما يقع خارج المحميات الثقافية. ومن المعلوم أنَّ هذا الوضع هو امتداد للمشهد السياسي المثقل بالإرث الاستبدادي، ربما تلك المعادلة تفسرُ  ضمور دور المثقف وتراوحهُ في مستنقع الأوهام ومخالفته لما يريدُ تمثيله من الأفكار المستنيرة. إذاً، فإنَّ عملية تفكيك الأقانيم الثقافية يجبُ أنَّ تسبق المحاولات الرامية للتغيير في الأنظمة السياسية ومن الواضح أنَّ الأولوية في الوسط الثقافي هي للبحث عن الأدوار بدلاً من صياغة الأسئلة بشأن المسلمات، ومثلما أنَّ الحاكم السياسي لا يغامرُ بإجراء إصلاحات جذرية لأنَّ هذا الأمر يتطلبُ إلغاء سلطته كذلك الحالُ بالنسبة للقائم في برجه العاجي باسم الثقافة والفكر يخاف الخروج من طوره التحنيطي حتى لا يخسرَ أوراق اللعبة. والملاحظُ أن ثمة إسقاطات ذاتية على المشهد الثقافي العالمي إذ لا يستوعب الكتاب فوز شخصية غير معروفة على نطاق واسع بجائزة عالمية. وهذا ما يكشفُ الرغبة الدفينة لرؤية ما يطابق واقعهم حيثُ لا تضمُ قائمة المرشحين بالجوائز المُعلنة  سوى أسماء مكرسة ومعروفة. و يتضاعفُ وقع الصدمة عندما يكرمُ عالمياً من أخطأته الجوائز العربية وهذا ماحصل مع الروائية العمانية جوخة الحارثي عندما فازت بجائزة مان بوكر العالمية على روايتها “سيدات القمر” ،وتزداد التكهات في كل عام مع إقتراب موعد إعلان  الفائز بجائزة نوبل، لكن لماذا النيجية تخالف التوقعات دائماً؟

درس نوبل

ذهبت غالبية التوقعاتُ إلى أنَّ  الأسماء المكرسة عالميا تفوز بجائزة نوبل للآداب إذ كانَ كل من ميلان كونديرا وهوراكي موراكامي وإسماعيل كاداريه وماغريت أتوود إلى جانب عدد آخر من الشخصيات الأدبية  تداولت أسماؤهم ضمن المقالات التي تناولت مايقعُ عليه الاختيار وينضمُ إلى قائمة الفائزين غير أنَّ قرار اللجنة كانَ مخالفاً لكل التوقعات وتفاجأ الوسط الثقافي بمنح الشاعرة الأمريكية لويز غليك جائزة نوبل لسنة 2020 صحيح هي ليست من نادي المشاهير ولم تكن معروفة بالنسبة لكثير من المتابعين وكانَ حظُ ترجمة نصوصها إلى اللغات الأخرى قليلاً. إذ ترجمت مختارات من مجموعاتها الشعرية إلى العربية ونشرت بعنوان “عجلة مشتعلة تمر فوقنا” ماذا يمكنُ فهمه من هذا الموقف ؟ لماذا تمنحُ جائزة لبوب ديلان ولويز غليك ويبقى الآخرون على دكة الانتظار؟  طبعاً لاينكرُ أحدُ القيمة الأدبية لروايات صاحب “رقصة فالس” ولايصحُ  إلا الإقرار بعبقرية كاداريه في إضفاء البعد العالمي إلى الثيمات المستقاة من بيئته المحلية في أعماله الروائية فهو تكفيه رواية الجسر ليتوجَ بالمجد الأدبي ونادراً ماتصادف كاتباً وصل إلى مستوى مؤلف “الغابة النروجية” من حيث الشهرة واكتساب جمهور عريض من القراء. إذاً  فإنَّ الجائزة لاتضيفُ إليهم ولاتزيدُ من مقروئية منجزهم الأدبي كما يتفوقُ كل واحد منهم على الفائزين بنوبل شهرةً لذلك تكمنُ أهمية الجوائز في صرف الإنظار نحو الأسماء التي ظلت بعيدةً من الأضواء والإبانة عن الإمكانيات الأدبية المغمورة لدى القارئ ولولا فوز باتريك موديانو بنوبل 2015 لربما بقي مجهولاً فبالتالي تضيع فرصة معرفة مايتصفُ به أسلوبه من الخصوصية. عطفاً على ما سبق ذكره فإنَّ المسابقات والجوائز الأدبية إذا لم تثر أسئلة حول الأعمال الفائزة وما حققته في الصياغة والأسلوب لا تعدو كونها حملة إعلامية مؤقتة

ظاهرة

لايصابُ الفكرُ بالسكونية والجمود إلا عندما يتخذُ الاشتغال الثقافي صفات التحزب وتطالُ بلية الانقسام السياسي والطائفي المجال المعرفي ويشتغلُ كل طرفٍ على تضخيم من يغردُ في سربه ويتمُ تجاهل الباحث عن دروب جديدة بالطبع  يتمُ دعم هذه الظاهرة في واقعنا الثقافي من خلال وفرة الجوائز وإقامة المهرجانات وإطلاق المنابر إذ فما يهمُ ليس المستوى المعرفي ولا التميز الإبداعي بل ما يحددُ الموقع هو الولاء لهذا الطرف أو ذاك وبهذا تصبحُ الاستقلالية في الفكر مكلفةً طالماَ يحلُ مفهوم الولاء مكان الطاقات المعرفية إذاً لا يصعبُ علينا فهم تفاقم الاحتباس الفكري والتخثر العقلي لأنَّ المثقفَ ليس إلا مهووساً بالسلطة قد ضل طريقه

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة