مصائر الاختلاف في الثقافة العربية

د. وسام حسين العبيدي

لم تكن التطورات العلمية التي اجتاحت العالم، بذات أثرٍ فاعلٍ في تغيير بنية التفكير وآليات إنتاجه الذهنية بما يتعلق في الشأن العمومي الذي يرتبط بأخلاقيات التعامل بين الجماعات والأفراد، وكأن ثمة فاصلاً بين ما يُنتجه العقل ويستقبله فيما يخص التطورات العلمية التي من شأنها إمداد الحياة بكل ما يعزز رفاهية الإنسان وتحقيق رغباته بأسرع الطرق وأنجعها، وبين ما يُنتجه أو يستقبله من أفكار ومبادئ وقيم تتعلق بمجمل حياته المعيشة، إذ ثمة سكونٌ وجمود في الحالة الثانية، دفعت مفكرا مثل الدكتور محمد عابد الجابري أن يتوقف عند العقل العربي في مرحلة زمنية واحدة – مرحلة عصر التدوين- ويقيس عليها ما بعدها من عصور، وبهذا يكون كل ما أنتجه العقل العربي يمثل في صورته النهائية تعبيرا عن عصرٍ واحد، وبهذا كان السكون صفةً لذلك العقل، باعتبار تشابه الآليات في عرض المشكلة، وصولا إلى تشابه المعالجات والحلول، ولنأخذ على سبيل المثال، ظاهرة الاختلاف الفكري داخل الدين الواحد أو المذهب الفقهي/ الكلامي الواحد، فهل كان تلقّي المختلِف أو المختلَف عليه، يتباين من عصرٍ لآخر في الساحة الثقافية العربية تحديدًا..؟ وحين نراجع تاريخنا في هذه النقطة وصولاً إلى الحاضر، ونصطدم بصخرة التلقّي السالب ممثلا بالممانعة والرفض للمختلِف أو المختلَف عليه، هل سنُفاجأ بعدها بتشابه آليات المعالجة لتلك الظاهرة..؟ أقول: أبدًا لا نُفاجأ، فالمعالجات هي أيضًا مستوحاة من صميم لوامس التلقي، وكما قيل: “النتيجة تبعٌ لأخسِّ المقدمات”؛ وبهذا يبقى المختلِف أو المختلَف عليه مسكونا بهاجس التوجّس منه في مخيال تلك العقلية الأحادية، مُحاطًا بالريبة والشكوك، والأحكام الجاهزة مُسبقًا، التي من شأنها تحجيم أثره المُبتغى في المحيط الذي انبثق في أجوائه بالخطأ..!! وهذا الخطأ نستشعره بوضوح فيما قيل ويُقال عن من كان بتلك الصفة في سياق الأسف لضياع منجزه وأثره: (فلان ليس مكانه هنا) نعم هو خطأٌ فادحٌ في تصوّر ذلك المخيال المعبّأ بالنظرة السكونية المستمدة بدورها من الأسلاف، وبهذا الاستمداد السلفي، تنال مباركتها، ومنْ ثمّ مشروعيتها في التجذّر والاستمرار، ولعلّ منطق التكفير/ التبديع/ التفسيق.. إلخ من أحكام تطال الآخر المختلف، يمثل أحد تجليات تلك العقلية، التي لا يقتصر حضورها عند فئة من الناس هم أقل تعليمًا من الآخرين، بل يمكن أن نجدها عند علماء وباحثين مرموقين في مختلف الاختصاصات العلمية سواء الصرفة منها أو الإنسانية، وليس حكرا مثل ذلك السلوك على الجهلة من الناس، فالعلم والجهل أيضا من المفاهيم النسبية، ولا يعني حضور أحدهما في عقل أحدٍ من الناس، انتفاء الآخر في كل مسارب التفكير. وفي سياق تعليل هذا الأمر أجده نتاج تربية بيئة ترسّمت حدودها بهذا الطابع، ومع أنّنا نؤكد في الوقت نفسه أنه بإمكان العقل تمزيق شرنقة السكونية عليها والتمرد على ذلك النسق الثقافي الضاغط مجتمعيًّا، ولكنه أيضًا يتطلب إلى توفير مناخ ملائم لتجاوزه، والتحليق بعيدًا عن أسواره، بما يمنحه الجوُّ الأُسَري – على أقل تقدير- من فرصةٍ للثقة بإمكانات الذات، وإنماء مواهبها على تخطّي المشاكل وإيجاد الحلول. وفي حال انعدام الفرض الأخير، ليس لنا إلا أن نردد مع تلك العجوز حين رأت شاتها ممزقة بأنياب الذئب الذي تربى بلبنها حين كان صغيرًا (فلا أدبٌ يُفيدُ ولا أديبُ)..!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة