سوران محمد
بوعي أم بغير وعي قد نكتب. نكتب، من الاعماق التي لا تصل يد أحد اليه، الا القلم الوجداني الذي يبث ذبذبات النفس المكلومة. أحيانا نهرب عن طريقه من الواقع المشجون، و أحيان أخری نواسي به أنفسنا ونتسلى، و كذلك قد كتبت صفحات الأيام الخوالي والماضي السحيق بأقلام قد جف مدادها و وافی المنية أصحابها، ولكننا مازلنا نعايش أجواءها المشحونة بالصراعات و مرات بجمال سرمدي لا نظير لها، نتذوقها و هي بدورها تشبع الحس الأستاتيكي في داخلنا. وكلما مررنا عليها أثناء مطالعاتنا تشتد بنا هواجس مختلفة. ربما يكتب الشاعر و لا يسأل نفسه لماذا يكتب؟ أم لانه ليس له جواب شاف لها أو لا يسأل نفسه أصلا هذا السؤال الوجيه البسيط، لأن الكتابة أصبحت ملكة أو جزءا من الروتين الحياتي للشاعر كالأکل والشرب والنوم والمشي في الطرقات. و دائما هنالك جمع من الناس يتميزون بتلك الصفات النفسية للشاعر و يقعون في شباك نتاجاته أو بالاحری في غرام خطابه الادبي ويترك في أنفسهم أثرا ملحوظا، لأنهم يجدون أنفسهم و واقعهم هناك داخل هذا العالم السحري أو بما يسمی باليوطوبيا الشعرية، بل حتی مرات يصعب علی القارئ أن يكتشف ماهية سر الجاذبية لنص ما، الا أن روحه تحس بدغدغته، وكم من عالم غير المرئي أوسع من العالم المادي كمدی سعة خيال البشر أنفسهم. اذن لا ينحسر الشعر في التعريف التقليدي بالكلام الموزون والمقفی فحسب، بل هنالك عناصر عديدة تشارك في تكوين بناءه الهندسي والفني في آن معا، بدءا من الفكرة ومرورا بالثيمة، ثم روح المثابرة والتمرد في النص وعند الشاعر، موسيقاه تنعش أرواحنا و ايقاع المعاني و الکلمات تجذب شعورنا و تحتل احاسيسنا وتسيطر عليها، بلاغته تؤثر فينا بشكل بليغ، رسالته تستقر في القلب كسهم أصاب هدفه بدقة. أما الفنتازيا و الصور الشعرية المتجددة تقلب مفاهيمنا كثورة يافعة تجرف كل عائق أمامها وتنقلنا من عالمنا المحسوس الی عالم مغاير تماما. وهكذا يتبين مستوی الاحترام الذي حظي به الشعر من قبل الشاعر أثناء تعامله و تداوله لحظة تأليف نصه. ونلاحظ هذا الاهتمام في ثنايا الأسطر والمقاطع الشعرية، هل ابتذر الشاعر في استعمال المفردات وقام بأعادة استعمالها من جديد أم لا، هل أبدع الصور من عالم تصوراته ورؤاه الخاصة و فضاء خياله الشاسع أم تقلد و استعمل المألوف دون عناء و بذل جهدا يذكر؟ أما الكلام حول الأسلوب والتقنية فلا حدود لحصره في أسطر عدة و مقالة واحدة، لأنه متعدد و متنوع کأختلاف أشكال بصمات الأصابع اليد الواحدة تنوع عناصر الكون الواسع. احيانا تأتي الی مخيلة الشاعر كفکرة عابرة وأحيان أخری يكتب لغرض ما أو حاجة مختبئة في نفس الشاعر، هل يكتب لهدف منشود يصيبە أم بالعكس تماما کما يراه الحداثييون أن الشعر الأصيل خال من تحقيق أهداف معينة والمرامي السياسية المتغيرة وهذا ما أكد عليه محمود درويش بأن القصيدة السياسية لا تعني له أكثر من خطبة، بل في الحقيقة ان القصيدة الخالدة هي صدی مدوية في آذان البشرية جمعاء مادامت السماوات والارض. ولا تشيب بمرور الأيام والسنين مخترقا بهذا حواجز الزماكان و محتضنا هموم الانسانية و الصراعات الكونية بين الموجودات المختلفة، مستعينا بتطلعات فلسفية وأسئلة متحيرة، ثم بتعميم الخاص وجعل الذات موضوعا، وهكذا القدرة الرائعة على الوصف ونسج الصور في آن معا، في حين يراه الآخرون کأرضية مثالية لإعادة ابتكار الذات كما فعله بروتيغان، لكن في الأخير هي الهام وملكة مختبئة داخل النفوس و مصدرها الروح الانساني، وقد يحسن صياغتها من لهم باع طويل في عالم المجاز و القدرة علی الابداع عن طريق استخدام علوم اللغة و فنون تعبيرية اخری أثناء غوصهم في محيط الميتافيزيقا مستعينا بالجهاز التلقي والتي تتبلور في الحس المرهف عند الشاعر، لكن دائما هنالك فکرة وراء استعمال کل هذه الوسائل المتنوعة من أجل خلق نص شعري متميز و مبدع، بحيث يتميز بها عن السائد العتيق، وهنالك طريقة أخری و قياس سهل لمعرفة أصالة نص ما و مستوی جودته، وهي امكانية ترجمته الی لغات أخری و احتفاظه بقيمته الشعرية في نفس الوقت، ومن خلال هذه العملية يتبين لنا أن الجزء الشكلي من النص (المتغير) والذي اعتمد علی التزين اللفظي و اختيار المفردات والألاعيب اللغوية تبقی ثابتة في النص الأم فقط، لكن الثبات الحقيقي هو لروح القصيدة والتي تتجسد في الفكرة، الثيمة، الايقاع الداخلي للكلمات والمعانی، أما اختيار المفردات والالفاظ المتشابهة للنص في اللغة المنقولة اليها تعتمد علی مستوی الفهم و نوعية ذائقة المترجم و امكانياته الشعرية واللغوية. وخاصة في عصرنا هذا لقد تقارب الزمان و الحضارات من البعض وبغض النظر عن الاختلافات العرقية والايدولوجية فان تکنولوجيا الاتصالات سهلت هذه العملية وجعلت من العالم قرية صغيرة تتنقل عبرها كل ما هو جديد في غضون ثوان محدودة من اقصی الغرب الی اقصی الشرق، ومع ان الشعر كسائر أنواع الادب قد فقد مركزيته، الا انه و لحسن الحظ مازال يعتبر رابطا و لغة مشترکة بين الأمم والشعوب وقد اجتاز كل الحواجز المصطنعة و دون ان يخضع لجبر الانتماء و التنقيح الرقابي.
وختاما: ليس من السهل الاحاطة بتعريف تام لعالم الشعر وابداعاته وطرحه بصيغته المنتهية، بل من المستحسن ان نترك هذا الأمر كما يفهمه الناس و يتعاطون معه ، و تماما هذا ما أوصانا به رائد الشعر الفرنسي آرثر رامبو: ‘إن الإبداع، في أفضل حالاته، لا يمكن وصفه، لذا لا تحاول أن تعثر على تفسير منطقي له، بل اسبح مع التيار’.