السارد الواقعي حينما يواجه تطرفاً مجازياً في قصص “قطار أحمر الشفاه”

د. سمير الخليل

       تناقش مجموعة قصص (قطار أحمر الشفاه) الصادرة عن مؤسسة ثائر العصامي للطباعة والنشر- بغداد 2019-2020، للقاص والروائي “شوقي كريم حسن” العمل الفني القصصي بوصفه انطباعاً مباشراً وشخصياً عن الحياة السرية للناس وليس نسخاً للواقع المعيش، وتتصدى للوعي الذاتي النموذجي من خلال التحكم بمجريات الحياة الخفية للعوائل المحافظة الراسخة في احترام التقاليد المرعية.

       إن معالجاته القصصية جاءت بتوسطية الصراع بين الواقع الاعتيادي والتقانات الفنية، وهكذا وجدنا ذلك الإصرار على إبراز الأنماط الاجتماعية التي تقدمها نماذج، حيث إنه غير قادر على النفاذ إلى عمق الواقع الذاتي للشخصية من دون العلامات والإشارات التي تبثها حولها ، هنا أو هناك، وبذلك استطاع أن ينقل إلينا شيئاً من الجوهر الحقيقي لكل تلك التأوهات والهذيانات التي رافقت حوارات الشخصيات وتفوهاتهم العلنية.

       فشخصيات قصصه لا تمتلك البراءة ولا الكرامة أو القداسة (مهما كانت متدينة)، وهم حاضرون بقوة بغض النظر عن المكان والزمان اللذين يتواجدون فيهما أو ضمنهما، وهم يمثلون الخلاصة النهائية للمجتمع الذي انتجهم. وما اكتشفه المؤلف هو أن الحقيقة البشرية أكثر تعقيداً وغموضاً مما يظهره هذا التفاعل الاجتماعي، فالحقيقة البشرية المستترة، في الغالب، تختلف عن ما نراه في الواقع اليومي: ((بألم قال الرجل الذي كان يدخن بهدوء: الصالح لا يقتل أحداً، كانا يبتعدان يتبعهما نور ساطع، وثمة صورة تطايرت في الهواء، صورة لرجل يقود حبيبةً بجدائل سود، وامرأة تنزف دماً متقيحاً كالصديد. كان الرجل يعتمر عمامة بيضاء ويمتطي فرساً بلقاء مشتعلة، يغني ما أن تصب الشمس روحها في وعاء الغروب)) (ص125).

       ولأجل القبض على “الشيء الحقيقي” لا يعتمد القاص على المصادفات الحكائية التي تنتج من الاستطرادات والتلقائية، ولا يسمح لنمط معين من القص للاستحواذ على قلمه، وإن الطريقة الوحيدة التي يستطيع القاص أن يبلغ بها خاصية ما هي بإيجاد صورة غريبة، حدث شاذ، يوضح شيئاً ما في القصة، وليس هناك شيء مثير مثل “سفاح المحارم” وقصة هذه “الجريمة الأخلاقية” مبنية على متتابعة من التناقضات الصادمة المتحدية للتابوات (المحرمات) الاجتماعية، حيث أن تعريفنا لما هو انحراف حقيقي يتغير باستمرار، الحقيقة عكس المظهر، الواقعي عكس التمثيلي، الشرعي ضد غير الشرعي، الحقيقي ضد التخييلي، الفضيلة ضد التدني، الكمال مقابل النقص، الغرور مقابل التواضع، والوضيع مقابل الشريف، فما هي حدود الوضيع؟ ومتى تبدأ دورة الشرف؟ ولو أن مهمة القاصي هي إدراك الشيء الجوهري وكشفه، وهو ما يكمن تحت سطوح الظواهر، فإن القاص في كل قصصه قد فشل في إدراك طهرانية شخصياته الذكورية والأنثوية، لكنه أدرك طهرانية لغته وإنماءاته البلاغية: ((عند حواف السواتر ما كنا نشعر بغير الأحلام أغطية لنا، نتوسد حواف رجولتنا الآيلة للانتهاء، ونلاحق مدن الرغبة والاشتهاء. كنا نشيد مدناً، ونرسم إناثاً خليطاً من الأمهات والأخوات وممثلات السينما، كنت وحدي من يرسم أُنثاه بماء البارود… الحروب الآثام عودتنا أن لا نسمع غير نداءاتنا ورغباتنا المجنونة)) (ص209 وما بعدها).

       إن جمع القصة القصيرة لذاتية حكائية وموضوعية واقعية هو الذي ميّز قصة (قطار أحمر الشفاه)، وهي واحدة من أكثر قصص المجموعة تماسكاً وسبكاً

 (وقد غدا عنوانها عنواناً رئيساً للمجموعة القصصية من باب إطلاق الجزء على الكل) حيث أنماط الصور المعقدة تنقل وهمية الأحداث الشكلية والحركية، ونجد أن ما يتموضع بين الذاتية والموضوعية يتمحور حول شخصية سائق قطار الموتى “عواد عنيد” الذي أدت مهمته العسكرية في نقل التوابيت حسب عناوين مدنها إلى دخوله القسري إلى عالم فنتازي أصبح واقعاً كثيفاً، وكلما حاول الفكاك من قدره، من هذا الفخ الحربي يجد نفسه أنه غاص أكثر في مستنقع الفخ- الحرب. لقد أصبحت تجربته الحياتية حقيقية أكثر من كونها وهمية وتخييلية، وإن ما اعتقد أنه واقع العالم البريء للحياة البسيطة التي يعيشها شغيل ميكانيكي كان لعبة وعليه أن يلعبها حتى النهاية، وبدلاً من كونه غريباً على العادات التي اعتقد أنها موجودة في أتون الحرب والمعارك أصبح متأقلماً وكأنه خلق لأداء تلك المهام المرعبة. فقطار أحمر الشفاه هو مصاص دماء نهم لا يرتوي من امتصاص دماء الضحايا.

       وعند محاولته للتأثير على ابنه لجعله يشترك معه في لعبة قيادة “الأقدار” أو يكون بديلاً عنه عندما يتقاعد أو يسرّح أو يموت، قام الابن، بالرغم من أنه يعي “قذارة” هذه اللعبة، بمجاراة أبيه ومرافقته إلى حيث يشاء من دون التورط باشتراطاته ، وبممارسات مختلفة تعامل بها مع هموم ومشاغل أبيه. إن خطأ الأب “عواد عنيد” الوحيد في كل ذلك أنه اعتقد أن ابنه سيكون مثله وسيعتقد بما اعتقد به، وسيغدو بديله الحقيقي وتغافل تماماً عن كون ابنه يمثل جيلاً جديداً، فكراً مغايراً، أحلاماً لا تشبه أحلامه، وقد أدرك هذه القضية بعد فوات الأوان، وبدل أن يصل القطار إلى محطته الأخيرة في رحلته الأخيرة دخل القطار إلى عالم مفزع، رهيب، يعج بالبربرية والعنف: ((أغمضت عيني وبدأت أعد أنفاس القطار وهو يعوي خائفاً صوب مجهول جعلني أرمي أوصالي واحدة واحدة، حتى أني لم أكن أنا عند المحطة الأخيرة… فأغدو مرتجفاً، وكرنفالاً من التوابيت يتبع خطاي بإيقاع عسكري مدوي بنداءات متوجعة تأتي من قلوب كانت تتجه إلى المقابر المسوّرة للمدن التي لم تعد مأهولة بغير قطار الموتى وطوابير المنتظرين!)) (ص216).

       لقد انصبت مهمة “شوقي كريم حسن” في هذه المجموعة القصصية حصراً في كيفية نقل الحياة الروحية الغامضة التي يحياها أبطاله بواقعية تمثّل مشكلة أساسية لكتّاب جيل الستينيات (من القرن المنصرم) في العراق. فعند هذا الجيل التجريبي المؤسس للقصة القصيرة الحديثة في العراق كانت الشخصيات تخضع لتصورات سايكولوجية و -أيضاً- للمخاوف والرغبات الحسية، بينما في القصص التخييلة الجديدة التي ابتدعها جيل جديد من القصاصين (وشوقي كريم حسن واحد منهم) قُدمت الشخصيات كما لو كانت حقيقية، وهذا ما قرأناه في معظم قصص (قطار أحمر الشفاه) حيث قام المؤلف بجمع كل العناصر الرمزية والواقعية في مزيد مقنع من الحلم والواقع، والدخول مباشرة إلى الدائرة الحياتية المغلقة للأسرة (بوصفها أصغر وحدة نووية في المجتمع) بشكل صادم للصور المستحوذ عليها من شخصيات مهووسة بكشف المستور بالرغم من حداثة سنهم: ((رفع إليه حصانه وأحتضنه بحب ووئام، ليراها تعدو صوبه رافعة طرف دشداشتها الخضراء إلى فمها، أراد النهوض وحاول امتطاء جواده وأراد الصراخ وحاول طرد ضجره، لكنها مرت من أمامه مسرعة دون أن تلتفت إليه.

  • ما لك يا …

نظرت إليه بحسد جعله يطرق متأملاً ساقيها اللذين يشبهان بيدر التبن، رمت ثوبها وهمست:

  • أما سمعت لقد ..

قال: – ماذا ؟

قالت: – أبي يقول لابد من موتك !

قال:- مو .. ت .. ي ي ي !

قالت:- لقد شاهدنا ونحن وراء قبة الضريح !)) (ص35).

لقد اقترب المؤلف من مس العصب الاجتماعي الحساس عندما اقترب من حلقة المسكوت عنه المغلقة في الدائرة الأسرية عن طريق البدء بما يبدو كـ”لعب صبياني” أو شقاوة فتيان مراهقين لاهين، ورويداً رويداً يتوغل في أرض القصص الملغومة وقد تم غزوها بشخصيات مجازية تحوّل الواقع إلى مجاز. كانت المشكلة الوحيدة التي واجهت المؤلف الحقيقي هي كيفية ردم الفجوة بين القوى المتناقضة، حيث الشخصيات تجسد حالات مادية – حسية بحتة، وبين الهموم الكتابية النصوصية، حيث تتملك (تسيطر) الأجواء الروحية على مزاج التأليف والسرد ككل: ((- ابن.. تريد دخول دائرة الكبار، من أنت لكي تفكر بمثل هذا، أو لا تعرف بأن المناطق التي تطأها أقدامنا ممنوع عليكم الوصول إليها أو حتى النظر إلى قاع سوادها، كيف يمكن لواحد مثلك أن يضع رأسه متعمداً على وسائد غير وسائده؟!)) (ص202 وما بعدها).

ومع ذلك، فقد استطاع “شوقي كريم حسن” أخيراً السيطرة على أدواته وتكوين عوالم قصصية مشوقة، حيث يمثل الحاضر السردي بشكل رمزي أقصى مراحل الواقع السايكولوجي لشخصياته، وعلاوة على ذلك، قام بتطوير حبكات درامية تشبه كثيراً تلك الحبكات التي حفلت بها قصص وروايات “فرانتزكافكا” (1883-1924)، وقصص الأمريكي “إدغار إلن بو” (1809-1449). واستطاع كذلك أن يخلق لنا سارداً واقعياً يواجه تطرفاً مجازياً، وهذا هو لحن الخطاب في كل ما أردنا أن نقوله طوال الوقت.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة