عبارة وردت على لسان رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي، عند زيارته لعائلة الراحل هشام الهاشمي بعد واقعة الاغتيال الاليمة. لا أعرف شيئا عن المعطيات والحفريات والوثائق التي اعتمدت للوصول لمثل هذه الثقة بعدم وجود “عراقي يقتل عراقي”..؟ لدحض مثل هذه القناعات، لا نحتاج لجهد كبير كي نتعرف على ما يضج به تاريخ العراق من الوقائع والحوادث والوثائق والأهوال؛ التي تضعنا وبلا فخر على رأس لا دول الجوار وحسب، بل العالم كله بقتلنا ونهشنا لبعضنا البعض الآخر، حيث لم نكتفي بما مر علينا زمن “جمهورية الخوف” ومقابرها الجماعية ومحاكمها الميدانية وجرائم الابادة المتخصصة بسكان هذا الوطن المنكوب وحسب، بل تواصلت تقاليد “قتل العراقي للعراقي” بعد زوال النظام المباد، وولجت بهمة السلالات الجديدة من القتلة والسفاحين الى أطوار أدهشت العالم كله، وهذا ما يفترض بمن تصدى لمسؤولية الحفاظ على الذاكرة العراقية قبل تصديه للمسؤولية التنفيذية الاولى في البلد، معرفته وسبر اغواره بشكل أفضل منا جميعاً، لا اطلاق مثل هذه الاجابات المتنافرة تماماً وما تنوء به الذاكرة العراقية من جرائم وأهوال ارتكبها العراقيون ضد بعضهم البعض الآخر..!
ليس هناك ادنى شك من طموح غالبية أهل العراق الساحقة بالوصول الى ذلك اليوم، الذي تتحقق فيه مثل هذه الامنية التي تهدهدها عقولهم وضمائرهم “ماكو عراقي يقتل عراقي” ولا اي انتهاكات لاخوتنا في الانسانية وشركاءنا في الحياة؛ لكن ما نتمناه شيء وما انحدرنا اليه من حضيض ووحشية، لأسباب وعلل تم التطرق اليها مرارا وتكرارا شيء آخر تماماً. لقد تم تنفيذ مجازر بيد “عراقيين” ضد أفضل ما انجبته هذه الارض من ملاكات مدنية وعسكرية وعلمية ودينية، وظل القتلة يسرحون ويمرحون بسبب اطمئنانهم لتقاليد “الافلات من العقاب” وهذا ما افضى الى ما يعرف بـ “جمهورية الخوف” وسدنة ومقلدي وفلول تلك الحقبة البشعة في تاريخنا الحديث ما زالوا مسكونون بحلم استرداد الفردوس المفقود، وما عروس جرائمهم “سبايكر” الا عينة انموذجية، وقريبة جدأ لما يسكن أولئك “العراقيون” من شغف وحماسة؛ لابتكار ما لا يخطر على بال أبشع الضواري من طرق ووسائل للفتك بابناء وطنهم العراق، لا لشيء سوى لانه مختلف عنهم كما يختلف كل عيال الله عن بعضهم البعض الآخر…
ان تقنية النعامة في مواجهة مثل هذه الحقائق البشعة لن تفضي لغير المزيد من الهزائم والخيبات، علينا مواجهة مثل هذا الارث السام وما يتجحفل معه من سكراب قيم وتقاليد تحتفي بالجريمة ومخلوقاتها الممسوخة، وهي بكل تأكيد مهمة عسيرة وتحتاج الى الكثير مما فرطنا به في العقود الاخيرة؛ اي الشجاعة والحكمة والوعي العميق لنوع التحديات التي تواجهنا، لا النكوص مجدداً الى ما تضمه ترسانة شيطنة الآخر المختلف وابتكاراتها المستجدة لنبش الاحقاد والثارات الصدئة، كما حصل من لحظة زوال النظام المباد الى يومنا هذا. ان محاولات القفز على حقيقة الاصطفافات والتمترسات في المشهد العراقي، وطبيعة القوى والكتل المهيمنة والتي تعتاش غالبيتها على ديمومة أجواء الخوف المتبادل وعدم الثقة بين ما اطلق عليه دستورنا الجديد بـ “المكونات”؛ لن يساعدنا في مهمة تجفيف مستنقعات هذه الجائحة التي فتكت بالتطلعات العادلة والمشروعة لسكان أقدم الاوطان. نحتاج المواجهة لا المراوغة والطمطمة والزوغان خلف خطابات لا هوية ولا ملامح لها كالعبارة التي اخترناها عنواناً لعمود اليوم…
جمال جصاني