د. نادية هناوي
أعطى الشكلانيون الروس للنوع سمات تجعله بمثابة الجنس حتى لا اختلاف بينهما، ومن تلك السمات أنّ للنوع ملامح أساسية يمكن أن تتغير ببطء، لكن النوع يستمر في الحياة كصنف، وأنَّ النوع قد يتعرض للتطور وأحيانا لثورة مفاجئة، وأنّ النوع يحتفظ باسمه برغم حدوث تبدل جذري في بناء الأعمال التي تنتمي إليه، مشيرين إلى وجود أنواع سوقية وأخرى سامية؛ بيد أنّ الأمر تبدل مع ظهور نظريات الأجناس والتداخل بينهما. وإذا كان القرن العشرون هو عصر الشك، كما ذهبت ناتالي ساروت؛ فإن القرن الحادي والعشرين هو عصر التفكك انفلاتا أو تخلخلا، باتجاه تحقيق التقارب ورفع التنابذ والتمتع بالحرية بمعناها الإبداعي.
وليس غريبا إذا قلنا إن الخوض في معايير عدِّ ابتكار كتابي معين جنسا مستقلا استقلالا تاما عن غيره من الكتابات، لا يمنعنا من أن نرتكن في هذا الاستقلال إلى قوانين معينة تسمح بالتداخل ثم العبور. وتختلف هذه القوانين باختلاف توجهات منظري الأدب وما يتبنونه من مفاهيم وطروحات.
وعلى الرغم من أن التجنيس بمفهومه الحداثي كإطار عمل ومنهج تفكير، ليس له من القطع والإثبات النظريين ما يجعل الإتفاق على البت في صحة معيار دون غيره مقبولا، فإن هناك دعوات عند بعض المنظرين وليس كلهم إلى التعامل مع التجنيس بطريقة تقطع ولا ترجح، وتجبر ولا تُخيّر، وتجزم ولا تجوّز.
ولعل السبب في مائعية التعاطي التجنيسي مع أي شكل من أشكال الكتابة الإبداعية، متأت من كثرة المعايير التي تضبط هذه الكتابة أو تلك، لتضعها في خانة معينة وقد وسمت باسم معين هو جنس مؤطر بحدود لا تقبل العبور أو الاختراق.
ولقد غدا إقرار منظري الاجناس بحقيقة أن لا جنس يمكن أن يوصف بأنه كبير أو مستقل، أمرًا مفروغًا منه، ما دام أي شكل كتابي هو صنيعة جنس أكبر منه أو هو نتاج تركيز على بعد فني في الجنس نفسه أو حصيلة تداخل واشتراك مع جنس آخر. وهذه الحقيقة هي التي تجعل التجنيس واللاتجنيس مشروطين بمعيار نعتقد أن ملكيته بالأساس فكرية والاتصاف الجماعي في الكتابة فيه بالتأكيد قطعي وناجز.
وهذا المعيار هو الاختلاف الذي هو ضديد الاختلاط الذي به نستطيع أن نؤشر على الشيء من دون أن يعتري تأشيرنا أي اعتراض أو استدراك أو مراوغة، في أنَّ هناك جنسًا آخر تجمعه به ميزة أو أكثر. مما يسميه جيل دولوز( مبدأ الاختلاط المدمر) بمعنى الخلط بين تعيين مفهوم الاختلاف وادراج الاختلاف في هوية مفهوم لا متعين، يقول دولوز:” الشدة هي كم مضمن ومغلف وجنيني، وليست مضمنة في الكيف إذ ليست كذلك إلا ثانويا هي في البداية مضمنة في ذاتها : مضمنة.. وعلينا أن نتصور التضمين بمثابة شكل موجود متعين بالكامل”. ولا يكون الاختلاف اختلافا، إلا إذا تخطى الصفة الجزئية في التقسيم والتمظهر والتكييف والترهين والتنظيم، سواء أكان المقصود بالاختلاف البايولوجيات العضوية أو الفيزياويات الشيئية وما فيها من المسميات المعنوية غير المادية.
وإذا عددنا الاختلاف معيارا به تتحقق للشكل الأدبي استقلاليته الاجناسية؛ فإن هناك أمورا كثيرة لا بد للاختلاف أن يتمثلها ويلتزم بالتدليل عليها. وأولها مسألة الاختمار التي بها يضع التطور التاريخي قوله الفصل في مدى صحة اختلاف الكتابة المراد تجنيسها عن أية كتابة غير معتادة تشابهها أو تنبثق من قاعدية انبثاقها نفسها بالانزياح أو الانشطار أو التلاشي.
وبالاختلاف نقطع أن تكون هناك ولادات إجناسية نابعة من الجنس نفسه، أو ناشئة عن جنس آخر؛ الا إذا أثبتت تلك الولادة أنها تنماز في الأساس بالاختلاف عن سائر الأنواع أو التنويعات أو التقانات أو الاشتغالات المنضوية في الجنس المنبثقة عنه، أصيلة كانت أو عابرة إليه.
والجنس لا يوِّلد جنسًا مثله، بمعنى أن ولادة جنس جديد هي بالمقابل توكيد لعقم الجنس الواحد أن يكون مولودا لمثله. علما أن هذا العقم لا يمنع أي جنس من أن يتداخل مع جنس غيره ببينية التنافذ والعبور والتناص والتعالق، التي ينادي بها العبور الاجناسي.
ولا أجناس أدبية من دون ميزات اختلافية تعطي للكتابة استقلالية رؤيوية غير قطعية، معها تتبدد أية دعوى في التشكيك أو الثلب أو المساس بمتطلبات استقرارها الفني وفرادتها الكتابية. وهذه الرؤية تعكس سلطة المعرفة التي هي سلطة خلّاقة يراد منها الإنتاج والسيادة كفكرة أصلّية . وهكذا عددنا المقامة والمقالة والقصة والرواية أجناسا، لأنها استطاعت أن تبرهن على اختلافيتها في التدليل على متعين لا متعين يشبهه.
ولا تعني هذه الاختلافية ما ذهب إليه جيرار جينيت، وهو ينظر لمفهوم( أطراس النص) أو( ربض النص الطباعيمن ناحية الحجم والتشكيل المكمل للعنوان متخذًا مظهره النهائي والرسمي على الغلاف الأمامي لأي كتاب، لأن هذا الأمر مجرد تواضع المؤلف مع نفسه أو مع الناشر في إسناده إلى متن نصه المطبوع.
والاعتراف بأحقية المؤلف في أمر كهذا والقبول به مسألة لا مناص منها، ومن غير المعقول ولا المقبول إطلاقا تجاهلها أو إهمالها، لأن الإبداع حر وبدون هذه الحرية تتحول الكتابة من كونها إبداعا إلى بدعة. وحق المبدع في التحرر الإبداعي وبحسب ما يرتئيه لنصه من شكل، إنما يقابله حق الناقد/ القارئ في أن يقبل هذا النص أو يفنّده، مستندا في ذلك على معايير، منها معيار الاختلاف الذي به يؤول دعوى الابداع فإما يكون رافضا لها أو متوافقا معها. وتوافقه معها يعني توفر الضمان النقدي الذي يتيح لتلك الدعوى أن تجعل الكتابة مجنسة باجناسية هي حتما تتفرد عن أية إجناسية أخرى تناظرها.
ولو كان الاختلاف هو الإبداع والابتداع في حدود الكاتب وحده وليس عموم الكتّاب، لصار التجنيس فوضى وشتاتا، ولغدا كل ابتداع متجسدا جنسا، من قبيل ما يكتب على أغلفة النصوص شعرا وقصصا من تسميات مثل( اقصودة / مسراوية / تكتيبات سوريالية / ترحالات سردية/ تمارين قصصية / بورتريهات / كتاب قصصي/ متتاليات / متواليات / متوالية ما بعد سردية / شذرات / أعمدة/ وحدات / ورشة قصصية/ هلوسات)..الخ.
وما أكثر ما ابتدع من تسميات، لكن لم يتحقق لها شرط الاختلاف، فهذا كورني وجه أفق التوقع عند قرائه بتسمية مسرحية السيد في طبعتها الأصلية مأساة ـ ملهاة، كما أنّ اندريه جيد وضع لأعماله الحكائية تسميات كالحمقيات والحكايات والروايات؛ بيد أنَّ ذلك لم يدم لانتفاء شرط الاختلاف فيها، ولأنها تحكمهما وحدهما في تجريبها أولا، ولا تتوفر فيها قطعية الاختلاف عن غيرها ثانيا، ومن ثم لا تلزم النقد البرهنة على صحة تجنيسها ثالثا.
ولا غرابة أنَّ التجريب في وسم متنٍ نصي بعنوان مدجن يشخص مادته ويصور فحواه، مكفول بحقيقة أنّه نص مواز أو طرس أو متعال نصي، هو بمثابة مناورة من مؤلف، لرهن طريقة القراءة داخلا في معمعة العنوان والمقدمة وعناوين الفصول والهوامش وكل ما يتصل بالنص من حوارات ومشاهد وصياغات وغير ذلك، بيد أنه يخرج كلا وجزءًا عن مسألة التجنيس لذاك المتن.
والأساس المبدئي الذي ينطلق منه معيار الاختلاف أساس لغوي، فعندما نقول( شعر غنائي) فذلك يعني أنه ليس ثمة إمكانية لأن يتقارب معه لغوياً في الماهية والمعطى أيُّ مسمى آخر.