علي لفتة سعيد
تنتمي قصص مجموعة ( دائرة الاوهام ) للقاص والناقد أياد خضير الى ما يمكن تسميته بالبحث عن الشفرة القصصية من خلال جمع حاصل التلقّي الواقع ما الفكرة وعملية التدوين.. فالقصة لديه ليست مجرّد تسطير حكاية وتلوينها بلغةٍ شعرية، بل هي لحظة تدوين لغوية لتوضيح الحكاية، وبالنتيجة التوصّل الى مفازات الشفرة التي ترتبط ما بين العنوان كعتبٍة أولى، والنهاية كمفترق طرق.
إن ( دائرة الأوهام ) العنوان الرئيس الذي أراده عتبةً أولى، فكان بوابة كبرى لأن اللعبة التي تلي العنوان هو البدء بالعنوان ذاته كأوّل نصّ قصصي وقد وضع تحته أي عنوان القصة الأولى رقم واحد ليتبعه بعنوان القصة الثانية ويضع تحته رقم 2 ويستمر حتى يصل الى رقم 28 وليبدأ بعدها القسم الثاني في قصص قصيرة جدا بعدد 79 قصة.
إن ما يهمنا في المقابلة النقدية هي تلك القصص الثمان والعشرون التي تحوّلت من كونها قصص معنونة الى قصص مرقّمة مع عنوان فرعي، بمعنى أن عنوان القصّة هو العنوان الفرعي للرقم وليس العكس، ولو وضع الرقم فوق القصّة لفضح المرام وبين القصد لكنه جعله تحت العنوان ليبقي متلقّيه حول محيط الدائرة بالنسبة للعنوان وفي مركزها بالنسبة للثيمة أو حكاية القصة. والتي في أغلبها تدور حول الوهم الذي يغلّف كل شيء بدءًا من الإنسان ذاته الى ما يحيطه من أشياء.. فكلّ شيء تحوّل الى حركةٍ ثابتةٍ تحمل أسئلتها المريرة التي يلجأ فيها القاص الى تحوير اللغة من مستواها الإخباري الى مستواها التصويري ليعطي مفعول اللغة قدرةً على الإتيان بتحليلٍ من قبل المتلقّي، بمعنى إن المستوى التحليلي في هذه القصص كان منوطًا بالمتلقّي أكثر منه بالقاص الذي أخذ على عاتقه مهمّة التلويح بالمستوى التصويري المرافق للحدث وهو مستوى يخالطه الكثير من الأسئلة التي تعد في هذه القصص على أنها مستوىً قصدي يترك تحصيلها الى قدرة المتلقّي في إشباع قدرته على الإجابة على الأسئلة التي تارة ما تكون بطريقة المتكّلم أو الغائب أو الممازجة ما بين الاثنين، حين يتداخل الروي بحسب وجهة السؤال، أو وجهة التصوير في النص الذي يرتبط بدلالة العنوان الرئيس، وإن الجميع في الدائرة الواحدة كمركزٍ عام للنصوص أو الدوائر المتعدّدة كقصصٍ منفصلة، حتى لا تكاد قصّة تخلوا من السؤال بطريقة التصوير وليس بطريقة سهولة وضعه، على أنه مجرّد اختزال المكان أو القفز على الزمان، وهي بنية كتابية تحتاج الى الكثير من المهارة لأنها قد تعين الفكرة على الإتيان بما لديها من عوامل الوضوح في النص، أو الإطاحة بكل ما يريده القاص من عمليات البناء السردي للقصة.
في أغلب القصص يبدأ الاستهلال بتصوير ما حول الشخصية المتّخذة كان تكون الراوي أو المروي له او شخصية مخاطبة للاثنين، وجميعها وكأنها التي تأخذ مكان الراوي حتى لو كان هناك راو يتحدّث. وهو لا يتحدّث بطريقةٍ مباشرة كأنه يحكي لمستمع، بل تأخذه الغرائبية أو اللامعقول في تناول الحدث، كأن يكون حلمًا أو حربًا أو واقعةً أو حتى دولاب أو فراغا.. بمعنى ان النصوص تعمل على تحويل الأشياء الى حركةٍ دائمة وهو ما جعله يتّخذ من اللغة متقاطعةً أو مقطّعة أو ملتصقة بحسب حاجة الجملة القصصية التي يستخدمها في هذه القصة أو تلك، وهي جمل سردية عالية قد تفوق حتى فكرة القصّة، وهو ما مطلوب في النصّ القصصي، باعتباره ليس نصًّا حكائيًا يبحث عن فكرةٍ لحكايتها، بقدر ما هو لعبةٌ سرديةٌ تعتمد على مهارة اللغة ومهارة الإدارة التي تقود اللغة الى كشف المرامي التي تريدها الحكاية عبر النهاية. ولذا فإن هناك ثمة ريبٌ يدور حول الشخصيات أو الاشياء المؤنسنة.. ريب من المجهول/ الفنطازي/ الغرائبي أو الحقيقي/ الواقعي/ المتماثل مع الآخر وقرين له. وهو ريبٌ واضح في استخدام ( ربما .. وثمة ) مثلما هناك مجهولٌ يحتاج الآخر الى لإعانته على الإجابة لمتا طرح من علامات دالة على أهمية الأسئلة.. وهناك ايضا واقعٌ مستلّ منه الفكرة وهو واقعٌ لا يهيمن على واقعية الحدث ليتحوّل الى حكاية، بل من خلال تلك التوصيفات الواقعية التي تحفل بها القصص حتى القصيرة جدا التي هي محاولة أخرى لتدوين الوهم في روحية الريب والشك والظن في كلّ ما حول الإنسان.
ومن خلال ذلك يتّضح لنا إن مفاتيح القصّة لدى القاص خضير تنبع من ثلاثة عيون مهمة في عالمه القصصي في هذه المجوعة. الأولى: هي عين الفكرة التي يريد طرحها على شكل مناقشة وليس على شكل حكاية. الثانية : هي عين التدوين وطريقته في إنشاء العلامات الدالة على قدرة اللعب في استكمال دوائر المحاورة ما بين النصّ كفكرةٍ والنص كسرد. الثالثة : هي عين اللغة التي يطرح فيها ما ينبع من العينين السابقتين وهي لغة جميلة محايثة ومراقبة ودالة وقائدة وترتدي ثوب السرد، وهنا اللغة التي تنتج لنا القدرة على مواكبة الحدث السردي وبالتالي تأجيج الصراع للوصول الى منطقة التأويل الكبرى عن الخاتمة. وكل هذه العيون تصبّ في صالح النصّ القصصي عبر المتوالية الدائرية لكلّ قصة التي ترتبط مع القصص الأخرى، ليس في تشابه فكرتها أو شخوصها، بل في تشابه المنطقة الفكرية التي تحفل بها القصّة الواحدة بمعية القصص الـخرى والتي تنتج بمجملها العالم السردي سواء كان دائريًا نابعًا من العيون الثلاثة أو مختصرّا في الطريق عبر اللغة وطريقة طرح الأسئلة التي تعد واحدة من مفاتيح اللعب السردي التي تجعل من المتلقّي قريب منه وإليه في تتبع أثر الفكرة، وبالتالي أثر القصدية وربما يخرج بحصيلة استلهام المستوى الفلسفي التي تطرحه بنية الكتابة كطريقة تدوينٍ متميزة.