يوسف عبود جويعد
في تجربته الجديدة، وباكورة أعماله السردية الروائية، يقدم لنا الروائي كريم صبح روايته (الوجه الآخر للضباب)، في ثيمة جديدة وغير تقليدية، وفكرة مختلفة، حيث استطاع أن يجد وجهًا آخر لأحداث لم يتناولها أحد من الساردين في مجال فن صناعة الرواية، من حيث الشكل والمضمون، وحتى الزمان والمكان والشخوص، لنكون معه في أجواء روسيا البيضاء حيث الصقيع والثلج والبحث عن الدفء، والبرد الدائم، ومن خلال متابعتنا لهذا النص، نجد اللمسات التي يمكن لها أن تكون حالة متفردة، وهي استحضار التاريخ المكاني لكل بقعة أو مدينة أو دولة تطأها الأحداث، وبشكل يضع أمامنا صدق الرؤية الفنية المتبعة في السياق لمسيرة الحركة السردية، وغزارة المعلومات التاريخية التي تسهم في زج المتلقي وسط الأحداث وهو يعرف أين هو وفي أي بقعة من الأرض سيكون:
(لمن لم يسمع بقرية “بلاشفيا” أو لم يُسعفه الحظ بزيارتها، فإنها تعد الأجمل في الريف السوفيتي، هي وقرى “كولبينو، كرونشتادت، لومونوسوف، هوف، با فلوفسك، سترودسك، وبوشكين، ” تتبع مدينة سانت بطرسبرج، السيارة تقطع المسافة بين المدينة و”بلاشفيا” في عشر دقائق إذا كان الطريق سالكاً، وهو ليس كذلك دائماً، لا سيما في أشهر الشتاء، إذ يغطي الثلج كل شيء، وفي أكثر من نصف مسافته، يمر وسط غابات من أشجار الصنوبر والسرو والبتولا، هي الغابات التي يمارس فيها اللواء هواية الصيد.) ص 24
وهكذا نكون مع تلك التفاصيل المكانية وتاريخها، تمهيداً لوصولنا إلى الأحداث التي تدور في رحاها، وهي تفاصيل شكلت النسيج الأكثر طغياناً في هذا النص، وهي حالة تهيأ المتلقي باستقبال النص السردي بشكل أفضل، ثم ندخل بيت اللواء وأسرته في أجواء وفضاء وحياة وطقوس، روسيا وتلك القرية التي مر ذكرها، لنكتشف لاحقاً أن هذه الأسرة المكونة من الأب اللواء، والكونتيسة الأم والابنة كريستينا، والأخوة الثلاثة، هي نقطة انطلاقنا ومركز الأحداث والبؤرة الرئيسة، التي سوف ننطلق من خلالها لمتابعة هذا النص.
إن ما قدمه الروائي يشير بشكل واضح، إلى أنه سوف يخوض غمار تجربة سردية، تدور أحداثها، خارج مكانه الذي يعيش، وهذا الأمر يتطلب قدرة فائقة من الوعي، وخزينًا كبيرًا من المعلومات التي تكون أشبه بالحالة المساندة والمساعدة والمساهمة في تحقيق حالة من النضوج في النص، وعليه أن يكون صادقًا ودقيقًا في عملية نقل الأحداث بشكلها الصحيح، لأن المتلقي سوف ينتقل معه إلى روسيا، وقد نجح في هذه المهمة، وعملية التمهيد لا تقتصر بنقل المكان وتاريخه، بل أنها شملت حياة هذه الأسرة ونقل التفاصيل التي تشكل عملية التكوين والتشكيل لهذا النص، فبعد أن تكبر كريستينا، تلتقي بالأستاذ الجامعي السوري ثروت طوقان وتنشأ قصة حب بينهما، لتنتهي بالزواج، ورغم اختلاف الأديان بينهما فهي مسيحية وهو مسلم، إلا أن هذا لا يعيق الارتباط.
إن أحداث هذا النص السردي، أشبه بمن يريد أن يدخل البحر، ويبدأ من حافة جرف هذا البحر، وينزل رويداً رويداً، خطوة بخطوة، حتى يغطيه الماء ويصل القاع ليستكشف ويسبر أغواره.
فالأحداث ما زالت في بدايتها، وما زلنا ننتظر المزيد، فبعد أن تتم عملية الزواج يرزقان بطفلة، أسماها جدها (روزالين)، من هنا تكون الحبكة قد اكتملت ودخلنا المرحلة اللاحقة من الأحداث، وهي حالة التأزم والتي فيها تشتد الأحداث وتحتدم، وهي في خط تصاعدي، حيث تتوفى الأم كريستينا وتعيش روزالين في كنف جديها لتنال الرعاية والحنان، إلا أن الأب ثروت يستطيع إقناع الأسرة بأن تنتقل معه إلى وطنها البديل سوريا، وهو متزوج من امرأة سورية ورب لأسرة بثلاث أولاد، مع زوجته ميساء.
وحتماً أن انتقال روزالين من موطنها الأصيل إلى الوطن البديل، ستجد فيه صعوبة ومعاناة كثيرة، أهمها اختلاف الطقس من البرودة الشديدة، إلى الحرارة الخانقة، ومعاناة كثيرة أخرى، أهمها التعامل القاسي الذي واجهته من زوجة أبيها وأخوتها الثلاث:
(كيف يُقتلع المرء من جذوره؟ لا رغبة لي، أنا فتاة الثامنة عشرة، أن أبدأ مذكراتي هذه بفلسفة وجعي، بسؤال لا طائل منه بعد ثمان سنوات من اقتلاعي من وطن حنون عشت فيه أروع أعوام طفولتي وجزءاً من مراهقتي، ونقلي كشجرة من دون جذورها، إلى ” وطن بديل”.
وقد وجد الروائي مساحة واسعة، وفرصة جديدة، ومن خلال ما تراه روزالين من أحداث في سوريا والبلدان العربية، والتي شهدت الربيع العربي المزعوم سيء الصيت.
ثم نعيش حجم التفاصيل والمعاناة التي عاشتها روزالين التي سوف تبلغ ذروتها في خاتمة تلك الأحداث، كما يجد الروائي أن الروايات لا يمكن لنا أن نكتب في نهايتها (انتهت)، لأن الحياة مستمرة، وأن الشخوص الذين يعيشون أحداثها ما زالوا أحياء.
ومن التساؤلات التي يجب أن تطرح في هذا النص، هي: أن مذكرات روزالين والتي وجدنا إشارة من الروائي بأن هذه الأحداث منها، لم تدخل حيز النص، وإنما جاء ذكرها قرب انتهائها، وبينما ندخل الأحداث دون أن نحس أنها من ضمن تلك المذكرات، والتساؤل الثاني وربما يكون تمويهًا، إن أحداث هذا النص تدور رحاها في روسيا وسوريا، إلا أنها كتبت في بلد ثالث، ولكننا نحس بوجودها وواقعية وصدق ما حدث فيها.