متابعة الصباح الجديد :
يخلق أدموند دو فال في عمله الفني التركيبي “مكتبة المنفى” الذي يعرض في المتحف البريطاني، فضاءً للتفاعل، يتعدى متعة الفرجة الجمالية على عمل فني إلى ممارسة شتى نشاطات التفاعل والمشاركة، (من تأمل وحديث وقراءة وكتابة)، تجعل من المشاهد جزءا من تجربة العمل الفني.
فالجناح الذي بناه دو فال في المتحف وأراده أن يكون مساحة للتأمل والحوار، يتألف من جدران طُليت بمادة البورسلين (الخزف الصيني المزجج)، وحملت رفوفا ضمت أكثر من 2000 كتاب لمؤلفين عاشوا تجربة المنفى؛ فضلا عن تشكيلات خزفية للفنان الذي تخصص في فن الخزف (السيراميك)، ومصاطب تمتد على جانبها يمكن لزائر المعرض أن يجلس عليها للقراءة أو الكتابة أو للحديث أو التأمل والتفاعل مع مكونات العمل الفني.
وقد لصقت على الكتب قوائم استعارة، كما هي الحال في المكتبات العامة، يُمكن للزائر أن يختار كتابه المفضل منها ويُدون اسمه في قائمته.
وسيتواصل عرض هذا العمل في المتحف البريطاني حتى الثامن من سبتمبر/ أيلول المقبل، لتنتقل محتويات المكتبة من الكتب بعد اختتامه إلى مكتبة الموصل في العراق، مساهمة في إعادة بنائها بعد أن تعرضت للتدمير والحرق على أيدي تنظيم داعش الارهابي.
وسبق للعمل أن عرض لأول مرة في بينالي فينيسيا العام الماضي، ثم نقل إلى مدينة درسدن الألمانية قبل أن يستقر في المتحف البريطاني بدءا من مارس/ آذار الماضي.
تضم رفوف المكتبة كتبا لنحو 1500 مؤلف من 58 بلدا ومن حقب تاريخية مختلفة وبلغات متعددة، كما تشمل فنونا كتابية مختلفة؛ من شعر ونثر ونقد وتأمل فلسفي.
وكجزء من فضاء التفاعل، يُشجع الزوار على اقتراح وإضافة أعمال لمن يرونهم كتابا منفيين لم تشملهم المكتبة.
وما يجمع مؤلفي هذه الكتب هو المرور بتجربة المنفى فترى بينهم: أرسطو وهوميروس و دانتي وأوفيد والمؤرخ تاسيتس والكاتب والخطيب شيشرون من العصور القديمة، أو شعراء أمثال عزرا باوند وتي أس إليوت؛ أو مفكرين من أمثال كارل ماركس وحنا أرنت وفالتر بنيامين وغرامشي أو كاتبة أطفال مثل جوديث كير من العصر الحديث.
وتضم المكتبة العديد من الكتاب من البلدان العربية: شعراء من أمثال أدونيس ومحمود درويش وفاضل العزاوي وكتاب وروائيين من أمثال أمين معلوف والطاهر بن جلون و أندريه شديد وألبير قصيري وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد ديب وكاتب ياسين وإبراهيم الكوني ورشيد بوجدرة وإبراهيم نصر الله وسنان أنطون.
وتحاول المكتبة أن تكون شاملة فتضم حتى أسماء مغمورة لبعض الكتاب غير المعروفين من موجات اللجوء في السنوات الأخيرة، الأمر الذي قد يرى فيه البعض أنه بمثابة اعتراف بهؤلاء عند وضعهم إلى جانب كتاب كبار؛ على الرغم من أنه لم تثبت بعد موهبتهم الأدبية.
وقد اختار دوفال موضوع المنفى مادة لعمله، ممازجا بين تجربته الشخصية وماضيه العائلي واستجابته لهذا الطواف الواسع لموجات الهجرة واللجوء الذي يشهده عالمنا المعاصر.
يقول دوفال إن تلك البيئة الخطرة و “السامة” التي تواجه المهاجرين في العقد الأخير كانت جزئيا وراء تفكيره في إنجاز هذا العمل، متأملا بفكرة العيش في المهجر أو المنفى، أو حسب تعبيره في وصف عمله: “إنه حول المنفى، وما يعنيه أن تنتقل للعيش في بلد آخر وتتكلم لغة أخرى”؛ لذا كان حريصا على أن يغمر مشاهد عمله بطوفان من كلمات كتاب مهاجرين ومنفيين بشتى اللغات ومن كتب أو تراجم كتبت في المنافي.
وباختياره المكتبة مكانا، يحاول دوفال أن يسلط الضوء على المكتبات المضاعة، وما تعرضت له المكتبات على مدى التاريخ الإنساني من أعمال حرق ونهب في أزمنة التعصب والحروب، لذا نراه يخط على الجدران الخارجية لعمله التي طُليت بمادة البورسلين المسال، أسماء هذه المكتبات بدءا من مكتبة نينوى في الدولة الآشورية في القرن السادس قبل الميلاد وانتهاء بمكتبة جامعة الموصل في محافظة نينوى في وقتنا الراهن، وبينهما الكثير من المكتبات المضاعة والمدمرة في العديد من دول العالم وفي مختلف الحقب والعصور.
بيد أن المحفز الأكبر لدو فال في عمله هذا يأتي من تجربة عائلته الشخصية، التي عاشت تجارب المنفى والهجرة، وظل ينهل منها كثيرا في أعماله الفنية والأدبية. فوالده هو المؤرخ ورجل الدين فيكتور دو فال الذي أصبح كبير قساوسة كاتدرائية كانتربري، وكان جده الأكبر، هندريك دو فال، رجل أعمال هولندي قد هاجر إلى بريطانيا، وكانت زوجته، إليزابيث، تتحدر من أسرة أفروسي الشهيرة، التي تعد واحدة من أغنى الأسر اليهودية التي عملت في القطاع المصرفي في أوروبا وترجع أصولها إلى روسيا.
ويقول دو فال إن محفزه الأساسي هو مكتبة جده الأكبر التي سرقها النازيون قبل هجرته إلى بريطانيا، في محاولته لاستعادة الذاكرة المسروقة وبناء مكتبة جديدة؛ ليس للتحسر على ما مضى، بل لخلق فضاء إيجابي خلاق للحوار والتأمل ضد مناخ التعصب والاستقطاب الذي قاد إلى نهب وحرق وتدمير المكتبات في الماضي.
هذه التجربة العائلية كانت مادة ثرة لدوفال الكاتب، إذ كتب عنها في كتابه “الأرنب البري ذو العينين الكهرمانيتين” الذي حظي بأهتمام نقدي وشعبي؛ تجسد في بيعه أكثر من مليون نسخة وتصدره قائمة أكثر الكتب مبيعا، وتتويجه بجائزة أونداتجي التي تمنحها الجمعية الملكية للآداب في بريطانيا وجوائز أخرى من بينها جائزة غالاكسي وجائزة كتاب كوستا في أدب السيرة الذاتية عام 2010.