ظرافة قاتلة

مهند الخيگاني

 على حالهما ، وهو جالسٌ على كرسي ، ظّلت عيناه صامدتيّن في عالم الحركة اللانهائي ، غارقتيّن في بحيرات من السكون ، تؤرجحه ذرات الهواء الناعمة الوافدة عبر شبّاك خشبي ، تمازجها ذرات الغبار المضيء والمتكشفة عبر شعاع حاد يخترق زجاج ذلك الشباك. الصالةُ مضاءةٌ بما يتسلل إليها من الخارج ومن أسفل الباب . ماذا حدث ؟ وكيف وصلت الحال الى هذه المرحلة ؟  دعونا نعيد مشاهدة الفيلم مرة أخرى . والبداية ستكون قبل أن تفيض السكينة وتغمر المكان . كان هناك صوت رجل عجوز في السبعين من العمر ، ينبعث من تلفاز عتيق متربٍ وعلى سطحه بقعٌ وآثار تنظيف خلّفت ظلالاً شاحبة . وهذا الرجل السبعينيّ كما تروي أحداث الفيلم ، عاش حياة كريمةً ملأى بالحب والسلام . وذات يوم رنّ هاتف المنزل ، وأخبرته إحدى صديقات زوجته بالحادث المؤسف الذي باغت صفو نزهتيهما ، وعندما طلب الزوج إليها أن تشرح له ما حصل بالضبط ، قالت له : في طريق العودة ، وبينما كنا نخطف نظرة على المحال من هنا ، ونظرة على العمارات الجديدة من هناك ، برز إعلان تجاري ضخم ، كان يضيء واجهة أعلى عمارة في الشارع وقد شّد لمعانه رقاب الناس ووجوههم ، وفجأة تجمهر الناس حولنا ، أخفضت رأسي ، ووجدتها مطروحة في منتصف الشارع ، وهناك رجل ظل يبكي ويصرخ الى جانب سيارته . أثناء سماعه تلك التفاصيل كان الزوج يحاول استجماع ما بقي في جسده من طاقة ، لفهم مجريات الأحداث و بعد التحقيق الذي أجراه مع صديقة زوجته ، زادت أوجاعه والتهمته التساؤلات وصارت تلوكه وتلوكه دون بلعه ، واستمر الحال كما لو أنه في ماكنة فرم اللحوم، عاتب نفسه عتابًا شديدا ، وأنّبها تأنيبًا حادّا ، بسبب أنه من أصّر على أن ترتدي أحذية بكعب عالٍ ، كلمسةٍ تعيد رونق الشباب ودبيب الحياة الهادر ، وبالأخص زاد ألمه حين روتْ له تلك الصديقة في مكالمتها أن هناك من شاهد الحادثة بالتفصيل ، وأخبرهم بأن المرأة لوت كاحلها ، وانكسر كعب الحذاء ، وما أن مال جسدها ، أفزعها سائق دراجة هوائية مسرعة ، حاولت إبعاد نفسها عنه ، كي تنقذ جانبها الأيسر من الاصطدام ، ففقدت توازنها وسقطت أمام سيارة تكسي كانت تنطلق لتوها من أمام أحد الفنادق . لم يحرّك الرجل العاجز في الفيلم ساكنًا بعدما أغلق سماعة الهاتف ، وأدرك أن المتبقي من حياته لا يساوي شيئا بعدما فقد شريكة حياته ، لا أبناء يخففون عنه ولا أقارب يمكن لهم إغلاق صوت الفراغ المدوّي الذي استلب حياته ، وأحكم قبضته على وعيه ، شُلّت كل أفكاره وشعر بالهزيمة والنهاية تلفّانه وتقمّطانه مثل الرضيع ، حتى أنه لم يشعر بحاجة ملّحة للذهاب الى المستشفى . وما أن تحرّك بضع خطوات الى الصّالة ، رنّ الهاتف من جديد ، حاول تجاهله ، فهو بلا شك سيكون اتصالا لأحد الأصدقاء يسأل عن الحادثة ويودُّ التأكد من حقيقة ما حصل ، لكنّ الهاتف رنّ رنّ دون توقف ، فأزعجه الأمر ، عاد من مسيره المهلك الذي قطعه في ثلاث أو أربع خطوات ، وقف قليلا قرب الهاتف ينظر إليه وهو يرن علّه يتوقف ، فيستريح من أعباء التفاسير والشروح ، علّها تكون الرّنة الأخيرة ، هكذا يأمل في نفسه ، فالوقت ما بين الرنّة والأخرى يعزز اشمئزازه في تلبية حاجة الآخرين الذين يشتهون إخماد قلقهم وذعرهم بالأسئلة الممّلة دون مراعاة للمتوجع الأول بينهم ، لكنّه في الأخير استسلم لواقع الأمر ، وتناوش سماعة الهاتف ، ظل منتظرا سماع الكيف واللماذا والمتى معجونةً ومحمّصةً دفعة واحدة ، فكان الردُّ على جوانياته صوتا يعرفه جيدا ، حاول أن يستوعب اللحظة المتشعبة التي حّل بها وحلّت به ، أنه صوت زوجته ، هل اختلطت عليه الأصوات ؟ هل هذه بعض أعراض الصدمة ؟ ، غرق في تساؤلاته وظنونه لبرهة ، حتى استعاد لحظة وعيه ، عندما قالت له : هذا أنا يا حبيبي ، أنه مقلب ، مجرد مقلب ، وضحكت ضحكات مترادفة ومتشقلبة ومتمادية ، كما يظهر في البرامج الرمضانية عامًا بعد عام على القنوات المتلفزة . شَحُب وجهُهُ ، وسافرتْ في جسده غصةٌ تركب على ظهرها حرقةٌ انطلقتا الى كل أنحائه ، بادئتان من أعلى رأسه ، تاركتان خلفهما آثارا دخانيّة ، تتجهان الى حدود أصابع قدميّه ، و تساقطت تلك الآثار من عينيه على هيأة قطرات مكثّفة من الدمع دون نحيب ، تشبه قطرات الماء السارحة من أعلى صنبور ميّاه بعد أن تتجمع وتتماسك وتدفع جزيئة ماء آتية من الخلف تلك القطرة نحو هاويتها الجديدة . قد يبدو المشهد من الوهلة الأولى ، أنه كان سعيدا وهذه دموع ما بعد الصدمة ، وأنه يشكر الخالق إذ هو مقلب لا أكثر ، وقد استعاد حياته التي عرفها ولن يكون وحيدا بعد الآن . هذا ما يظنّه ثلثا البشرية على الأقل ، ويفترض الثلث الآخر شيئا مضادّا تماما لما دأبت عليه العاطفة الإنسانية المقولبة .. أغلق سماعة الهاتف ، أدار جسده المثكل بالسنين والصدمات ببطء مروحةٍ يحرّكها الهواء في الصيف ، ومشى بخطواتٍ وئيدة ، والحق أنها أرباع وأنصاف خطوات ، حتى وصل الى الصّالة ، تربّع على كرسي من الجلد ممتلئ القوام ، أسند ظهره الى حضن الكرسي ، وأحس بثقل في صدره ، تضاعف الثقل كما لو أنه طائر عملاق وصلت أطراف مخالبه الى القلب ، كما لو أن صدره انبعج من ذلك الثقل ملامسًا ظهره . كان رأس العجوز في الفيلم في مواجهة التلفاز ، حيث يظهر أمامه بالمثل عدد من المشاهدين الذين كانوا يراقبون حياته ، جامدي الحركة عيونهم راسخة في الثبوت والتوجّه إليه ، ولشدة ما تأثّروا بما شاهدوه ، كانت أجفانهم تعلو وتهبط مع أجفان العجوز .. مرة ، مرتين و تجمدت الحركة . صاح المخرج : اقطع .. فيما بقي الشعور بالخجل والاشمئزاز مستحوذًا على الثلث الحقيقي من المشاهدين الذين أدركوا مدى ما يمكن أن تفعله التفاهة بالإنسان ، و كانوا يلعنون في سرهم تلك الزوجة السعيدة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة