لقاح العمل الطوعي

قبل اجتياح فايروس كورونا المستجد لكل تفاصيل حياة سكان هذا الكوكب الازرق، كنا كعراقيين قد تعرضنا لموجة من الفايروسات لا تقل فتكاً وتأثيراً عن تلك الجائحة الصحية. عندما تخصب في مراكز بحوث العصابات والجماعات التي تلقفت مقاليد امور هذا الوطن المنكوب؛ سلالات مستجدة من مسوخ القيم والممارسات والتقاليد، تستند الى ما لدينا من احتياطات هائلة في موروثات؛ الفرهدة وشفط الاسلاب واعادة تقاسمها، وفقا لما تحتله غيلان القوارض من مكانة ونفوذ. كارثة تمت مأسستها زمن النظام المباد، ليصل بها حيتان حقبة الفتح الديمقراطي المبين، الى اطوار لم تعرفها من قبل، وها نحن نقف مبهوتين لا حول لنا ولا قوة أمام كل هذا الهوان والعجز عن مواجهة ما ينتظرنا من مصائر كارثية، بفعل استسلامنا الطويل لما رسخته قوافل القتلة والمشعوذين واللصوص، من نمط حياة طفيلية وما يرافقها من شراهة وضحالة في الوعي والتطلعات. مبهوتون وعاجزون عن اتخاذ أية خطوات جدية وفاعلة، تجاه ما حصل لمعيلنا الاساس (النفط) والموازنة التي جف ضرعها، وما يترتب على ذلك من تداعيات مأساوية.
مقابل كل هذه العتمة في المشهد الراهن، هناك ما يمكن ان يشكل الضد النوعي لكل تلك الانسدادات؛ الا وهو “العمل الطوعي” ذلك النشاط الانساني والقيمي المجرب، والذي بمقدوره أن يكون لقاحاً ناجعاً لما عشعش لدينا من أوبئة وفايروسات واقطاعيات وسلوكيات وتقاليد منحطة. للوهلة الاولى يبدو هذا العنوان “العمل الطوعي” بسيطاً وساذجاً، امام جبروت ما لدينا من مشاكل وتعقيدات اجتماعية وقيمية، وفواتير قاسية تتضخم يوما بعد آخر، لكن مع مراجعة سريعة لما اجترحته ثقافة ومنظومة هذا النشاط الانساني، ولا سيما زمن المحن والمنعطفات المصيرية في حياة المجتمعات والدول؛ سنجد الامر على غير ذلك تماماً. ان فلسفة العمل الطوعي بما تتضمنه من معاني وقيم وما تتطلبه من خصال وشيم وصبر وروح ايثار، هي الكفيلة بالتصدي لمهمة اعادة الروح والتوازن لمجتمع انهكته ومسخته عقود من هيمنة “حثالة الريف وأوباش المدن” وما رافق ذلك من تفكك وتشرذم اجتماعي، ورواج عادات وتقاليد بعيدة كل البعد عن الفطرة الانسانية السليمة، رسخت بمرور الزمن نوع من المعايير والاولويات تمر امامها كل الانتهاكات والموبقات من دون أي رد فعل من عقل أو ضمير.
ان التحدي الاكبر أمام تحول “لقاح العمل الطوعي” من امكانية نظرية الى واقع، يتمحور في تحول ذلك النشاط الراقي من وضعه المحدود كفاعلية فردية او محصورة بعدد من الناشطين، الى نشاط واسع وممنهج تنخرط فيه قطاعات واسعة من المجتمع وعلى رأسها بكل تأكيد شريحة الشباب، بما تمتلكه من حيوية وديناميكية وروح ايثار واقدام، تحتاجه مثل هذه الزحزحات والانتقالات النوعية في حياة المجتمعات والدول. بمثل هذه المبادرات يمكن للاجيال الجديدة سحب البساط من تحت أقدام الاقطاعيات السياسية والاجتماعية، التي أدمنت حياة اللصوصية والتطفل وما يرافقها من ممارسات وسياسات، تقبع في قعر اهتماماتها تطلعات الناس العادلة والمشروعة. وحدها الاعمال التطوعية الواسعة بمقدورها؛ وضع كل امتيازات ومخصصات الطبقة السياسية الفاسدة في مهب الريح، من دون الحاجة الى الضياع في نفق ما وضعوه من سياقات وسكراب مؤسسات وتشريعات، وغير ذلك من دهاليز الحيل الشرعية والدستورية. انها مهمة عسيرة وقد تبدو طوباوية، لكنها ستكون غير ذلك ان اعتمدتها الاجيال الجديدة..

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة