” لصة الكتاب” ….

حين يكون ملك الموت هو الراوي العارف بكل شيء

هو ليس فيلما من تلك الافلام التي تتحدث عن المحرقة اليهودية او الهولوكوست، رغم وجود خط درامي يتحدث عن الفترة المرعبة التي عاشها يهود المانيا ابان الحقبة النازية، بل هو فيلم يتحدث عن قوة الانسان وتحمله لقساوة الظرف والتعامل معه بحكمة وقوة ارادة .

يبدأ الفيلم بحديث الراوي من فوق الغيم في إشارة الى انه ملك الموت الذي لابد لكل شخص ان يلتقيه وان طال الوقت، حيث يقول ” هناك حقيقة حتمية، أنك ستموت. على الرغم من كل ما تفعله فلا أحد يعيش للأبد. آسف لإفسادي اللحظة ولكن نصيحتي لك، عندما يحين الوقت لا تذعر، فالذعر لا يفيد لطالما أحببت صورتي وأنا أحمل المنجل و الفأس “

المخرج بريان بير سسيفال يتصدى لتحويل رواية لصة الكتاب للروائي ماركوس سوزاك الى فيلم سينمائي، وهي مهمة ليست بالسهلة، اذ تتطلب بناء معماريا خاص لفيلم يتحدث عن المانيا منذ العام 1938 مرورا بسنين الحرب العالمية ـ والبنية المعمارية هنا تعني تحويل كافة عناصر اللغة السينمائية لتحاكي تلك الحقبة الزمنية، وقد نجح بذلك الى حد كبير، حيث جعلنا نتعاطف مع ابطال الفيلم جميعا.

لكي يبتعد المخرج سسيفال عن تهمة الحديث عن المحرقة يخبرنا منذ المشاهد الاولى ان بطلة فيلمه الصبية ليزيل، قامت بدورها الممثل الشابة صوفي نيلاسس، هي ابنة لعائلة شيوعية، تعاني الاضطهاد، وتضطر عائلتها لمنحها لعائلة المانية كي تتبناها.

اب يعيش بداخله طفل، وام قاسية وصارمة، لا نلبث بان نعرف ان الظرف هو الذي جعل منها قاسية الى هذا الحد، ولكن في داخلها طيبة كبيرة لا حدود لها، هؤلاء هم اب وام ليزيل بالتبني ” قام بدور الاب هانز الممثل جيفري راش ،وبدور الام روزا ،الممثلة أميلي واتسون .

كل قساوة الام، يعالجها الاب بالطيبة ، وعلى ذلك تتعود ليزيل فهي تعرف معنى تحمل مسؤولية بنت في ظل الظرف القاسي الذي تمر به  البلاد .

الطفل رودي ذو الشعر الاصفر، سيكون عون ليزيل في انتقالاتها الحياتية الصعبة هذه، لتتعلق به ايما تعلق، تبدأ العلاقة منذ اول يوم لدخولها المدرسة  واستهزاء الطلبة بها لأنها  لا تعرف القراءة ، السبب الذي يجعلها تضرب احدهم بعنف ، من هنا يبدأ اهتمامها بكتاب حفار القبور الذي تعتقده مهما ، لكن الوالد يخبرها انه مجرد كتاب تعاليم لحفاري القبور ، وتبدأ بالتعلم والمعرفة ، وتسرق من محرقة الكتب الشهيرة التي اقيمت في وسط ساحات المانيا كلها  كتابا تنقذه من الحرق ، فتراقبها زوجة حاكم المدينة العسكري لكنها امرأة طيبة تساعدها فيما بعد على القراءة في مكتبة ابنها العامرة والذي اخذته الحرب ، لكن معرفة القائد بذلك يجبرها على طرد ليزيل من البيت نهائيا وعدم تكليف والدتها بغسل ملابسهم ثانية ، الامر الذي يضطر ليزيل الى العودة الى البيت والمكتبة مرة اخرة ولكن ليس كضيفة بل  كسارقة للكتب ، التي تعيدها بعد قارئتها .

هذا الخط الدرامي سيرافق الخط الدرامي الرئيسي الى انتهاء الفيلم .

مشاهد الخوف والرعب الذي تتحمله العائلة بل سكان المدينة الصغيرة رسمه المخرج بإتقان حتى لكأن قلبك يرتجف معهم، وسط كل هذا الخوف ثمة فسحة أمل، نعم وسط الخوف، يلتزم الاب بموقف اخلاقي، حيث سبق لوالد احد الشباب اليهود ان انقذ حياته، وبسبب تهديد النازيين لحياة هذا الشباب يلجأ لعائلة ليزيل الجديدة، من هنا يرسم لمخرج سيفال خط درامي جديد، يتمثل بالعلاقة بين ليزيل والشاب اليهودي

غارات طائرات الحلفاء تدفع الناس للاختباء في ملاجئ المدينة، هنا تبدأ ليزيل بقراءة قصصها الخاصة للناس المفزوعين والخائفين وسط دهشة الاب والام، واستمتاع الجيران بذلك 

بعد ذلك تبدأ الاحداث في التسارع، اعتقال احد اليهود ودفاع الاب عنه يؤدي الى ارساله اي الاب الى جبهات القتال رغم سنواته الستين، الشاب اليهودي يغادر البيت خوفا على عائلة هان، الاصابة تعيد الاب الى البيت، ليزيل لا تفارق رودي .

في احد الليالي لم تدوي صافرات الانذار وبقي الناس في بيوتهم دون معرفتهم ان الطائرات قادمة لترسلهم الى حتفهم ولتبقي ليزيل وحيدة مرة اخرى، الراوي العراف بكل شيء، ملك الموت يقول عن مهمته في اقتطاف ارواحهم:-

“لم يكن هناك صافرة إنذار تلك الليلة، أولاَ كان أشقاء رودي، قرأت أحلامهم البسيطة، ثم قبلت والدته، وسرقت اللؤم من قلب فرانز دوتشر روزا، أمسكتها وهي تشخر، أقسم أني سمعتها تنعتني بالوغد، ثم شعرت بندمها لأن لم تعط الفرصة للآخرين ليشعروا بقلبها الكبير. وبالنسبة لهانز كانت روحه أخف من الأطفال، شعرت بعزفه لآخر لحن على الأكورديون وسمعت كل أفكاره الأخيرة. رودي جاءت روحه إلى ذراعي. في عملي، دائما ما أجد أفضل وأسوأ ما في البشر، أرى بشاعتهم و جمالهم، و أتساءل، كيف يكون الاثنان شيء واحد. لقد رأيت أموراَ كثيرة عظيمة، وشهدت أسوأ كوارث العالم كلها وعملت مع أعظم الأشرار و رأيت أعظم العجائب و لكن كما قلت من قبل، لا أحد يعيش للأبد”.

تستيقظ ليزيل وسط ركام م اتبقى من البيوت لتجد الجميع قد ماتوا امها ابيها، الجيران، لكن مازال ثمة نفس في جسد رودي صديقها العزيز، لكنه النفس الاخير والذي لم يسعفه بإخبارها برغبته التي تعرفها دائما وهي ان يقبلها، فيموت لتصرخ وتمنحه القبلة التي اراد؟

في النهاية نسمع صوت ملك الموت الراوي العارف بكل شيء يقول في زيارته الاخيرة لليزيل  التي بلغت التسعين وحان وقت قطاف روحها  :-

وعندما جئت إلى ليزا أخيراَ، شعرت بالفضول لمعرفة كيف عاشت التسعين عاماَ بحكمة كبيرة. أثرت قصصها في الكثيرين بعضهم عرفته بعد الموت. صداقة ماكس التي دامت وفي أفكارها الأخيرة رأيت الأشخاص الذين اختلطوا بروحها، أولادها الثلاث وأحفادها وزوجها، ومن بينهم أضاء هانز وروزا كالمصباح وشقيقها والفتى الذي ظل شعره بلون الليمون دائماَ، أردت أن أخبر لصة الكتاب أنها واحدة من ضمن قلائل، جعلتني أتساءل كيف يكون الإنسان حياَ، ولكن في النهاية، لم يكن هناك كلمات، مجرد هدوء. الحقيقة الوحيدة التي عرفتها، أني مطارد من قِبل البشر.

التعاطف امر لابد منه وانت تشاهد حجم القسوة والحيف الواقع على الناس، وكيف ان العلاقات الانسانية يمكن ان تخفف من وطأة كل ذلك، فالطيبة والحب هما من يتسيدان الموقف حتى في اشد الظروف قسوة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة