قصائد القتامة وقصائد التفاؤل

حسن حافظ السعيدي

 تلقّفتُ المجلد السادس من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الكبير أديب كمال الدين الذي جاء بمثابة سياحة في سديم الشعر ليتناثر بين نجومه، إذ يتناول فيه مواضيع شتّى وثيمات متباينة. والسؤال هنا: هل جاء هذا المجلد السادس كمرثاة للكثير من الشعراء والفنانين والمشهورين على شتى انتماءاتهم الثقافية؟ مثل الفنان الوسيم (ألن ديلون) والمطرب (ديمس روسس) الذي غنّى على الارض فصارت أغنيته في السماء؟ ومرورا بالمطرب العراقي العتيد (محمد القبانجي)، والملك (شهريار) الذي تحوّل من سفّاح إلى مستمع أليف! والفخر في هذا يعود إلى دبلوماسية وحذاقة شهريار في هذا التحول! والرسام (فان كوخ) و(هاملت) الذي مات منتحرا! والمهندسة المعمارية (زها حديد)، والفنانة (أنجيلا جولي) التي ينظر اليها الشاعر كقديسة تواسي آلام الناس وتمد لهم يد المساعدة بكل ما تملك، وعندما حضرها ملك الموت ارتبك حد الذهول، يقول الشاعر: ص 76:

فارتبكَ مَلَكُ الموتِ حَدّ الذّهول

فهو لم يدرِ أنّكِ قدّيسة

أنبتها اللهُ في غابةٍ من وحوش،

قدّيسة تنثرُ ملايينها للفقراء

ومحبّتها للمُعذَّبين والمحرومين

وهي ترتدي أجنحةً من دموع.

كل واحدة من هذه الشخصيات يتناولها أديب كمال الدين من وجهة نظر متباينة، وبطريقة (القصيد السردي). فقد جاء ليرثي الإنسانية برمتها! اذ ينظر اليها نظرة قاتمة وكأنني بالشاعر تي اس اليوت في قصيدة الارض الخراب،  أو في قصيدة الصباح العقيم لأودن!  إذ كان أودن أستاذ الشعر في جامعة أوكسفورد يتحدث لنا عن مقطع لقصيدة الصباح العقيم حيث ينظر اليها أنها قد جاءت لتعبر عن شعور الكثير من شعراء جيل القرن الماضي بأنهم قد بدأوا يتمردون، حيث ورد في تلك القصيدة: لقد اعتاد طائر أن يزور هذا الشاطئ .. ولكنه لم يعد يأتي الان.. ولقد قطعت من عمري شوطا طويلا حتى انتهيت إلى أنه  لا أرض، ولا ماء ، ولا حبّ!

  ومثل ذلك نجد شاعرنا الأديب في قصيدة (حرف حياتي) ينشد لنا بمرثاة حزينة:

يا لها من حياة

تتساقطُ مثل قطرات المطرِ المُنهمرة

من غيمةٍ حامضيّة

لا يعرفُها إلّا أولئكَ الذين ضيّعوا شبابَهم الغضّ

في ملاجئ الحروبِ العبثيّة.

وحين التقى الأستاذ أديب بالشاعر السياب، في الباب الشرقي قال له الأخير في قصيدة (لم تكن) ص 22 :

حذارِ من هذا الزّمان

وأكاذيب هذا الزّمان.

إنّها لم تكنْ

غلطة قلبي الذي كانَ له

أن يكونَ دجلة حلمٍ

وفرات حرفٍ وحُبٍّ وشوق.

إنّها لم تكنْ

غلطة أنشودةِ المطر

أيّها الشّاعرُ الذي سيرى

مِن الهولِ ما يكفي لقتلِ بلادٍ

لا يكفُّ ليلُها عن الهَلْوَسَة

ولا فجرُها عن التمتمة.

فأيّة قتامة ينظر بها الشاعر أديب كمال الدين إلى الحياة؟

  ثم إنه بعد ذلك يمسح دموع كلكامش الحارّة المتدفقة في قصيدة (دموع كلكامش) ص 25 حيث يقول:

أنا شاعرٌ محظوظ

لأنّي لا أتوقّفُ عن الكتابةِ أبداً.

والسّببُ بسيطٌ جدّاً

فقد مسحتُ بيديّ المُرتبكتين

دموعَ كلكامش المتدفّقةَ ليلَ نهار

وهو يبكي؛

مرّةً على أنكيدو الذي اغتالهُ الموت،

ومرّةً ثانيةً وثالثة

على عُشبةِ الخلودِ التي سرقتها الأفعى

من قلبه ذاتَ حياة.

أما في قصيدة (حفلة الأقنعة) التي كانت إدانة كبرى لممارسات الإنسان في زمن الزيف، فقد كان الجميع يرتدون الأقنعة على وجوههم. وحينما دخل الشاعر إلى الحفلة لم يضع قناعا كما فعلوا، ففاز بالجائزة الاولى، لأن مَن كان يرتدي قناع الأسد أجابه : مباركُ لك جائزة الحفلة ! فأنا منذ دهور ودهور ، لم أرَ وجه الإنسان!

وتصف القصيدة تفاصيل الحوار بينهما:

حتّى قادتني قدماي إلى أسدِ الحفلة

فصاحَ بوجهي مُبتهجاً:

مُبارك لكَ جائزة الحفلة!

انتبهت الأقنعةُ جميعاً

وأجابتْ بالتصفيق،

بعاصفةٍ مِن تصفيقٍ وصُراخٍ وصَفِير.

قلتُ له:

أنا لم أضعْ قناعاً.

هذا هو وجهي!

ضحكَ وقال:

كيف؟

ممنوعٌ أن تدخلَ للحفلةِ من دونِ قناع!

قلتُ بصوتٍ مُرتبكٍ:

هذا هو وجهي من دونِ قناع.

فضحكَ ثانيةً

وصاحَ بصوتٍ عالٍ:

مُبارك لكَ جائزة الحفلة.

فأنا منذ دهورٍ ودهور

لم أرَ وجهَ الإنسان! … ص 43

  وهو إذ يمر بالعولمة ينعتها بالاختزال والتكثيف على طريقة وجبات الطعام السريعة:

في زمنِ العولمة

اختصروا القصيدةَ بسطرين

والسّطرين بكلمتين

والكلمتين بحرفين

والحرفين بنقطة،

نقطة واحدة فقط.

والشاعر الأديب بعد ذلك يتوجّه باللوم إلى زملائه من الشعراء قائلا:

ليسَ مطلوباً منكَ أن تكتبَ الشّعرَ العميق

لتكونَ شاعراً حقيقيّاً

بل ينبغي أن تتعلّمَ كيفَ تمشي على الماء

دونَ أن تغرق

ودونَ أن تلامسَ الماءَ بالطبع!

ويمتلك الشاعر علاقة حميمية جدا مع البحر فهو يشبه نفسه به، مرّة يصفه بأنه (بهجة) ومرّة أخرى يوحي للمتلقي بانه بمثابة (انذار!). ينظر اليه في تقلباته، في روعته وفي سكونه وغضبه، في جماله وتعاسته، في مدّه وجزره:

 فتحَ لي البحرُ، ذاتَ حياة، محفظتَه السِّرّيّة

فرأيتُ السُّفنَ الغرقى،

والسُّفنَ الهلكى،

والسُّفنَ التي أكلَ الدّهرُ عليها وشرب،

والسُّفنَ التي لم يزلْ يتقاذفها الموج

وهي تحملُ عظامَ اللاجئين ودموعهم وصرخاتهم.

*

لم أكنْ سعيداً أبداً

برؤيةِ هذه المحفظة السِّرّيّة

فقد أبكتني طويلاً حتّى ورمتْ عيناي.

*

كفكفتُ دموعي وهمستُ لقلبي:

أنا لا أحبُّ أسرارَ البحر

وسُفنَه الغرقى والهلكى

والملآنة بعظامِ الموتى.

أنا أحبُّ مباهجَ البحرِ على السّاحل.

*

لكنّني اكتشفتُ أو كُشِفَ لي ذاتَ نهار

أنّ مباهج البحرِ على السّاحل

هي محض هراء؛

النّساء وأشكالهنّ العجيبة،

النّساء ورقصاتهنّ الغريبة،

النّساء وأكاذيبهنّ التي لا تنتهي عندَ ساحلِ البحر.

*

هكذا سقطت المباهجُ والأسرار

في ضربةِ حظٍّ واحدة.

هكذا أصبحَ البحرُ جميلاً

من دونِ أسرارٍ وسُفنٍ غرقى،

من دونِ نساء ورقصاتٍ وأكاذيب.

*

نعم

أصبحَ البحرُ وحيداً

أزرقَ كقلبي الوحيد.

*

كفكفتُ دموعَ حروفي وهمستُ لقلبي:

شكراً أيّها البحر

شكراً لأنّكَ تشبهني تماماً… ص 112

ويختتم الشاعر مجموعة (شخصيات حروفية) من المجلد السادس الذي احتوى على خمس مجاميع بقصيدة (البحر والحرف) التي يوجّه فيها الخطاب إلى الذين وصفوه بالجنون ورموه بالحجارة، حينما أكدّ لهم: إن البحر بدأ بنقطة واحدة، ويضيف :

لم يتفقْ معي سوى القلّة؛

أولئك الذين يعرفون أنَّ البحر

بدأَ بنقطةٍ واحدة.

أمّا الأغلبيّة فوصفتني بالجنون

وبعضُهم رماني ساخراً ضاحكاً بالحجارة.

*

كنتُ أجمعُ بصبرٍ أيّوبيّ هذه الأحجار

وأرصفُ بها شاطئ البحر.

كانَ المنظرُ خَلّاباً للقلوبِ وللعيون

رغمَ أنَّ هذه الأحجار

هي أحجار حقدٍ دفين… ص 87

واذا كان الشاعر يعتبر نفسه في عداد الغرقى  لكنه مازال متفائلا : ففي قصيدة (اللغات السبع) ص 128 ينشد:  

نهرُ الحياةِ لا يتوقّف

ونهرُ الشِّعرِ لا يتوقّف.

وأنا في كِلا النّهرين غريق.

وفي قصيدة (ترقص عارية على شاطئ البحر) يستأنف الشاعر قوله ص 131:

البحر سرّ لا يكشفُ نَفْسَه

إلّا للحُروفيّ الذي يخبِّئُ قصائدَه في نقطةِ الروح،

إلّا للمجنونِ الذي يخبِّئُ سكاكينَه وكوابيسَه باحترازٍ شديد،

إلّا للغريقِ الذي يصعدُ جسده نازلاً إلى الأعماق.

وهكذا نجد أن الشاعر هنا يقوم باعادة صياغة النكسات فيقلبها إلى موجات فيّاضة من الفرح، فاذا كان الشاعر كما يعبر عنه (سدني) هو ذلك الانسان المفعم بالحيوية والاشراق، هكذا نجد شاعرنا يخرج من تلك الانتكاسات منتصرا بعنفوان على الرغم من نغمة الحزن التي يرسمها في حروفه وكلماته، فالرسم لدى (جورج الدومور) هو الفرح. وما بين الفرح والحزن تتكرر الحياة وتتكرر قصائد الشاعر الحروفي !

الأعمال الشعرية الكاملة: المجلّد السادس، أديب كمال الدين، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان 2020.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة