مهى يحيَ
يُعاني لبنان من صدمات مُتزامنة، وهو في حاجة ماسّة إلى عقد اجتماعي جديد.
تُواجه الحكومة اللبنانية، التي شُكّلت مؤخراً، معارك عاتية تتعلّق بالتصدي لتحديات كبرى اقتصادية وسياسية، وسيكون نجاحها ضرورياً وحاسماً لتعافي لبنان وديمومته.
فقد بات جليّاً الآن أن لبنان يمر بعاصفة كاملة تتزايد حدّتها يوماً بعد يوم، حيث تتخبّط البلاد في لجج انهيار اقتصادي، يفاقمه انسداد الأفق السياسي. وكل ذلك يجري في خضم أزمة شرعية أوسع نطاقاً، لأن شطراً وازناً من الشعب فقد ثقته في قيادته السياسية. النظام اللبناني لم يعد يعمل بفاعلية، وما لم يتم الاتفاق على عقد اجتماعي جديد بين المواطنين والدولة ستنزلق البلاد إلى حمأة الفوضى.
الآن، الأولوية للحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب هي إبطاء السقوط الحر الاقتصادي والمالي اللبناني. للقيام بذلك يتعيّن عليها معالجة سلسلة أزمات في آن. فمع وصول الدين العام إلى نحو 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، يجب على الحكومة السيطرة على الإنفاق والعثور على وسائل لتعويض ديونها. وهذا لن يكون بالأمر السهل مع العجز في ميزان المدفوعات الذي يتغذى من العجز التجاري المتواصل، والذي يتوقّع أن يصل إلى 8 مليارات دولار في نهاية العام 2020. وما يفاقم من كل ذلك حقيقة أن الركود العميق في البلاد يقضم عائدات الحكومة، إلى درجة أن الاقتصاديين يتوقعون أن يصل عجز الموازنة في العام الحالي إلى 3 مليارات دولار، هذا عدا دفعات الفوائد.
اليوم، ومع وجود زهاء نصف أصول المصارف في الدين السيادي للبلاد وفي البنك المركزي، ومع وجود ربع الأصول في شكل ودائع قطاع خاص خطرة، فإن المصارف تفتقد عملياً إلى السيولة وربما يكون بعضها متعسّراً. وقد أوقفت المصارف معظم الأنشطة المصرفية العادية، وبذلك لم تعد مصارف سوى بالاسم. وعلى الرغم من فرض قيود مصرفية غير فعّالة على الرساميل مؤخراً، إلا ان القطاع يشهد تدافعاً لسحب الإيداعات. في الأحوال الاعتيادية، كان مصرف لبنان يوفّر السيولة للمصارف، إلا أنه مُقيّد اليدين هذه الأيام بسبب توافر حجم محدود من الدولارات، وبفعل المخاوف من أنه إذا ما عمد إلى ضخ ليرات لبنانية في الاقتصاد، قد يفاقم ذلك انخفاض العملة المحلية.
محصلات كل ذلك كانت كارثية على اللبنانيين. فمنذ اندلاع الاحتجاجات في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي واستقالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في 29 تشرين الأول/أكتوبر، ازدادت الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية تردياً. فالقيود غير الرسمية على الإيداعات وعلى السحوبات النقدية تبث الرعب في أوصال الناس، فيما يحاول هؤلاء الحصول على إيداعاتهم التي جمعوها بشق الأنفس. ثم إن خفض خطوط الائتمان دفع الاقتصاد إلى الجمود، مع توقّع نمو سلبي يتراوح بين 5 و10 في المئة العام 2020. الشركات تُغلق أبوابها والبطالة ترتفع باطّراد، ويُقال إن آلاف اللبنانيين فقدوا وظائفهم في غضون الأشهر القليلة الماضية. وفي السوق الموازي، خسرت الليرة 30 في المئة من قيمتها، فيما لبنان يتحوّل بسرعة إلى اقتصاد نقدي.
وهكذا، أصبح الإفلاس، والفقر المتمدّد، والانحدار العام في مستويات المعيشة، من سمات الحياة لدى العديد من اللبنانيين. فثمة الآن نحو 760 ألف شخص في حالة فقر مُدقع، أي أنهم يعيشون بأقل من 4 دولارات في اليوم ولا يستطيعون الحصول على السعرات الحرارية اليومية الضرورية. وفي الوقت نفسه، شهدت التدفقات المالية هبوطاً حادّاً. وحتى الآن، أقدم سبعة أشخاص على الانتحار في الشهر الماضي كنتيجة مباشرة للأزمة الاقتصادية.
وسائل معالجة هذا الوضع الاقتصادي والمالي الكارثي متوافرة. وقد وضعت مجموعة لبنانية من الاقتصاديين وخبراء المال والتنمية مؤخراً خطة للمساعدة على التغلّب على الأزمات بطريقة تضمن تشاطر الأعباء على نحو متساوٍ، وحماية الفئات السكانية الأضعف. وهنا يجب أن نذكّر أن 151 دولة عاينت أزمة مالية من هذا النوع أو ذاك منذ حقبة السبعينيات. من بين هذه الدول، واجهت نسبة 2 في المئة فقط صدمات مالية ونقدية ومصرفية متزامنة كتلك التي يعيشها لبنان الآن. يُشار كذلك إلى أن البلدان التي أعادت هيكلة ديونها حصدت دعماً دولياً كان كافياً للخروج من الأزمة والاقتراض مجدداً.
هذا يوضح أن كيفية تصّي فيها صنّاع السياسة للتحديات أمر مهم. وهنا تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة، يتم في إطارها تنفيذ سياسات مختلفة بشكل متوازٍ، كجزء من استراتيجية أكبر. لكن البرلمان اللبناني أقرّ الأسبوع الماضي موازنة العام 2020 التي افترضت حدوث خفض وازن في خدمة الدين، من دون خريطة طريق توضح كيفية تحقيق ذلك، ومن دون تقديرات لتأثيره على تراجع قيمة العملة والتضخّم.
يتطابق هذا المنحى في الواقع مع أنماط السلوك السياسي في البلاد. فعلى الرغم من الاحتجاجات والأزمة الاقتصادية الحادة، واصل السياسيون العبث ووضع أجنداتهم الشخصية والسياسية فوق مصلحة لبنان. وقد استغرقهم الأمر ثلاثة أشهر لتشكيل حكومة جديدة، وحتى حينها احتفظوا بتمثيلهم في النظام ونشطوا لحماية امتيازاتهم.
بيد أن هذه المأساة ليست قصراً على الآني والحاضر. فهي تتعلّق أيضاً بالمستقبل وما يعنيه ذلك للأجيال اليافعة من اللبنانيين. فالإجراءات قصيرة المدى على الجبهة الاقتصادية ستجعل الإصلاح أصعب، وستُغرق الأجيال التي لم تولد بعد بالديون. ثم أن العمل على الجبهتين الاقتصادية والمالية، وعلى رغم أنه حاجة ماسة، إلا أنه غير كافٍ. وما أظهرته أشهر من الاحتجاجات من جانب شرائح مختلفة من المجتمع، هو أن لبنان في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد وعملية سياسية متجددة. لماذا؟
لأنه يكمن خلف الظروف الاقتصادية المتدهورة أزمة شرعية عميقة، تدفع الناس إلى النزول إلى الشوارع للتنديد بالطبقة الحاكمة وبالحكومة التي شكّلتها. لقد دعا المحتجون إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ورئيس جديد. وهذه المطالب دافعها انعدام الثقة بمعظم مؤسسات الدولة والروابط والهيئات الاجتماعية، الخاصة والعامة، بما في ذلك الحكومة، ومجلس النواب، والأحزاب السياسية، والمصارف، وأجهزة الأمن، ومنافذ الإعلام، والنقابات، والاتحادات العمالية.
تعكس استطلاعات الرأي هذا المزاج الشعبي. فوفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة «بيو» في العام 2018، قال 77 في المئة من اللبنانيين إنهم لايثقون بأن حكومتهم ستقوم بما هو صائب للبنان، فيما اعتبر 84 في المئة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم أن الوضع الاقتصادي سيئ في البلاد. وعبّرت غالبية تتراوح بين 80 و85 في المئة عن عدم ثقتها بمؤسسات الدولة، ومن ضمنها البرلمان، والأحزاب السياسية، والحكومة. كذلك، تهاوت ثقة اللبنانيين في النظام المصرفي، وسط حالة من الاستقطاب الشعبي حيال دور قوى الأمن. يُشار أيضاً إلى أن السياسيين يملكون معظم الوسائل الإعلامية، ناهيك عن أنهم استلحقوا النقابات المهنية والعمالية.
تضرب هذه الأزمة جذورها في النموذج السياسي والاقتصادي السائد في لبنان منذ استقلاله في العام 1943. على المستوى السياسي، كرّس الميثاق الوطني نظاماً قائماً على تقاسم السلطة على أساس طائفي. وفي غضون ذلك، اعتُبر لبنان جمهورية تجارية، اقتصادها موجّه نحو الخدمات، ويستند إلى ركنَين أساسيين هما السرية المصرفية والسياحة.
أُعيد تكريس هذا النموذج في تسعينيات القرن المنصرم، في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، وتحديداً خلال مرحلة إعادة الإعمار. فالتسوية السياسية التي أنهت الحرب مأسست على نحو متزايد نموذج تقاسم السلطة على أساس طائفي. في فترة ما بعد الحرب، حرص السياسيون الطائفيون الذين شاركوا في الحرب على تقاسم الثروات الوطنية مع بعضهم البعض لتعزيز شبكات المحسوبية التابعة لهم.
في موازاة ذلك، عهدت سورية، التي اضطلعت بنفوذ كبير في لبنان بين 1990 و2005، بدور أساسي إلى حزب الله، ما حوّل البلاد إلى معقل «مقاومة» ضد إسرائيل وحلفائها. وفيما أُعيد بناء منطقة وسط بيروت لتكون مركزاً للترف والرفاهية، كان حزب الله يعدّ جيشه على بعد بضعة كيلومترات فقط. واليوم، أصبح الحزب مدافعاً رئيساً عن النظام الطائفي الفاسد، في وجه التغيير الذي يطالب به المتظاهرون، ذلك أن النظام القائم يحمي الحزب وسلاحه.
يعكس الجانبان اللذان يميّزان طابع لبنان الفصامي – أي تجانب الجمهورية التجارية مع منظمة عسكرية تتبع أجندة مقاومة – التوازن الإقليمي الهش الذي كان قائماً في السنوات الأولى من مرحلة ما بعد الحرب. فصورة لبنان كمركز تجاري منفتح على العالم العربي والغرب جسّدت مصالح كلٍّ من السعودية، التي كانت أحد الأطراف الفاعلة في تسوية ما بعد الحرب، وممثلها الأساسي في لبنان رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وصورة لبنان كمعقل «للمقاومة» جسّدت مصالح إيران وسورية، التي كانت الطرف الإقليمي الثاني في اتفاق إنهاء الحرب. يُشار في هذا الصدد إلى أن هذين الطرفين أفادا من مواصلة النزاع مع إسرائيل، كلٌّ لأسبابها الخاصة. واليوم، لم يعد هذا التفاهم الضمني قائماً وسط الخلاف السعودي مع إيران وسورية.
يُعد الانهيار الاقتصادي في لبنان مؤشراً آخر على أفول نموذج ما بعد الحرب. فقد تراجعت تدفّقات الرساميل التي دعمت إنفاق الدولة، ولاسيما تلك الواردة من دول الخليج. ويُعزى ذلك جزئياً إلى انخفاض أسعار النفط التي أثّرت في مداخيل المغتربين اللبنانيين في الخليج، وإلى الشعور العارم بأن لبنان أصبح معقلاً إيرانياً.
بات واضحاً للبنانيين أيضاً أن همومهم الاقتصادية تقع في صُلب التداعيات الناجمة عن أزمة الحوكمة. فالنظام الطائفي الذي يعاني من الخلل فاقم ثقافة الفساد والهدر، ما سمح للطبقة السياسية بنهب البلاد، وللنخبة الحاكمة بإساءة استغلال الفرص على حساب غالبية المواطنين. لم تستفد أي طائفة منفردةً من النظام القائم، بل تراجعت سبل عيش جميع اللبنانيين. في غضون ذلك، وفيما تهوي البلاد إلى القاع، لايزال السياسيون مصمّمين على تسجيل النقاط السياسية حرصاً منهم على حماية مصالحهم في ظل نظام سياسي واقتصادي لم يعد قادراً على تحمّل هذا التصرّف.
تتطلّب الأزمة السياسية العميقة التي يغرق لبنان في لُججها راهناً حلولاً بعيدة المدى يكرّسها مسار سياسي يعيد بناء الثقة في المنظومة القائمة. ويجب أن يُستهل هذا المسار بإجراء انتخابات مبكرة، بموجب قانون انتخابي يحظى بالصدقية، ويستعيد الشرعية البرلمانية. في موازاة ذلك، لابدّ من إطلاق عملية وطنية ترمي إلى إعادة النظر في الإطار السياسي اللبناني. ويجب أن يكون ذلك بمثابة رؤية يشعر فيها جميع اللبنانيين، سيما أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع أو الذين يعتبرون أنفسهم مهمّشين سياسياً، بأن مخاوفهم وهمومهم تلقى آذاناً صاغية، وإلا فلن يرضى اللبنانيون ببساطة أن يتحمّلوا أعباء الإصلاحات والتعديلات الاقتصادية الضرورية بصمت، فيما يحصد قادتهم السياسيون مكاسب نظام سياسي فاقدٍ للصدقية.
كارنيغي للشرق الاوسط