الذين ولدوا وعاشوا فقراء لا يجدون أي ضير في الحديث عن ثورة اجتماعية تحمل شعار المساواة، وتؤمن بحق الجميع في البقاء. لا لأن هذا هو الوضع الطبيعي للإنسانية فحسب، بل لأنه كفيل بتقليل معاناتهم الدائمة، وتخفيف عذابهم الطويل.
غير أن الذين لم يذوقوا طعم الفقر، ولم يتجرعوا غصص الفاقة، وجاءوا إلى هذه الدنيا وهم في أعلى درجات الثراء، يجدون في مثل هذه الحال اغتراباً حقيقياً. ويشعرون أن هذا العالم ليس عالمهم الطبيعي. ولابد أن يمتلكوا وعياً استثنائياً، يستطيعون به تخطي واقعهم المختلف، وأزماته التاريخية.
ثمة أمثلة على الإخلاص للحقيقة، والتماهي مع الواقع من أشخاص استثنائيين. فرجل مثل ليف تولستوي صور في كتاباته مرارة العيش لدى فلاحي روسيا، وانحاز إلى المعدمين انحيازاً تاماً، كان قد ورث عن والده مزرعة ضخمة اسمها (ياسنا باليانا) وأربع قرى و(330) قناً من أقنان الأرض. وكان يتقلب في النعيم، ويهنأ برغد العيش. وقد وجد في وقت مبكر أنه لا يستطيع الموائمة بين الحال التي يعيش فيها، وما يخطه خياله الخصب. ورأى أن هذا السلوك ضرب من ضروب النفاق لا يستطيع قبوله.
يذكر تولستوي أن الزعيم الهندي المهاتما غاندي قال له ذات مرة: أنصحك بقوة أن تطرح عنك أي عمل كتابي، وأن تقبل على العمل بيديك. فالعمل اليدوي تمرين على الاستقامة التي تعني المساواة بين ما تأخذ وما تعطي. آمن تولستوي ربما بدفع من غاندي نفسه أن العمل اليدوي هو شرط عظمة الإنسان الحقيقية، وتأمين حاجاته الروحية والمادية معاً. ولم ينخرط في وظيفة إدارية مثل سواه من أولاد النبلاء. لكنه لم يكف عن الكتابة، بل أنتج أروع الروايات والقصص والمذكرات التي مازالت تقرأ بشغف حتى يومنا هذا.
لقد تحول تولستوي من نبيل إلى فلاح من فلاحي روسيا، فترك الجامعة في كازان عام 1847 وانتقل إلى مزرعته (ياسنا باليانا)، وشرع يشق الأرض بمحراث يدوي مثل أي كادح فقير. وقد ساعدته قوته الجسدية على عمل شاق كهذا. لكن هؤلاء الفلاحين خذلوه، وأخذوا يتعاملون معه باستخفاف، لأن السيد بنظرهم هو ذلك الشخص المتعجرف، الذي يتعالى على أتباعه، ويأنف من الاختلاط بهم . وأدرك حينها أنه فشل في مسعاه، فهجر مزرعته وعاد إلى موسكو. بيد أن استغراقه في اللهو وتنقله في البلدان لم ينسياه (ياسنا باليانا) فعاد إليها في الثلاثين عاماً الأخيرة من حياته، ولم يغادرها قط. وزاد على ذلك بافتتاح مدرسة لتعليم الصغار فيها.
لقد عكس تولستوي في كتاباته ثوريته القائمة على الروحانية ومقاومة العنف. ولم تكن هذه الثورية نظرية محضة، بل نتاجاً لعمل شاق مضن، قضاه في مراحل مختلفة من عمره أثبت فيه أنه رجل صادق مع نفسه وضميره، وليس مجرد كاتب يدون ما يخطر بباله، أو يعن على خياله، فحسب.
محمد زكي ابراهيـم