يوسف عبود جويعد
تجتمع مجموعة من الأنماط الأدبية، لتتحد في كتلة متراصة في النص السردي الحكائي الروائي ( فانتازيا السيد جلجامش) للروائي هونر كريم، حيث نجد الغرائبية والعجائبية والفنتازيا، تدخل في متن هذا النص لتكون شكله ومضمونه، وكذلك الأطراس الأسطورية التي وجد لها مساحة واسعة ضمن مسار المبنى السردي، كون بنية النص تنطلق من البؤرة الرئيسة، وهو اللوح المفقود من أسطورة (جلجامش) وفيه نوع ومكان نبتة الخلود، وتبدأ أحداث هذا النص في المتحف البريطاني عام 1872 م، ومع عالم الآثار البريطاني ( جورج سميث) عندما يكتشف وهو يرمم الالواح الطينية والتي تخص ملحمة (جلجامش) عثوره على هذا اللوح المهم والذي سوف يكتشف من خلاله نبتة الخلود التي عثر عليها (جلجامش) في قاع النهر، وهي نبتة شوكية يعثر عليها تحت الادخال عندما يشعر بوخز شوكها، وكانت مهمته شاقة كونه قيد رجليه بصخرتين كبيرتين من أجل أن يصل الى قاع النهر، وهناك يفتش عليها حتى يجدها، وعندما يخرج ويسير وهي بيده تخطفها الحية وتلتهمها، ويحرم (جلجامش) من فائدة نبتة الخلود، وهكذا نكون مع الأحداث في شدة احتدامها، بعد أن نكون قد اجتزنا العتبة النصية الموازية وهي مقولة لجلجامش:
( تعال أخذ بيدك إلى (أوروك)، الحمى والسور إلى ( البيت) المشرق، مسكن (آنو) و(عشتار) حيث يعيش (جلجامش) المكتملُ الحولِ والقوّة المتسلط على الناس كالثور الوحشي).
بعدها يغلق الروائي كل الممرات التي من شأنها أن تحول بيننا وبين متابعة أحداث هذا النص، لنواصل تلك المسيرة دون ملل او كلل أو انحراف ، فلم يشهد هذا النص أي زيادات أو ترهل أو أي حالة تعيق اتصالنا به، لأنه مجموعة أحداث مترابطة متصلة متوحدة، تتصل بتلك البؤرة، فبعد اكتشاف مكان هذا اللوح في قرية (كوجيك) في محافظة نينوى، يطلب عالم الآثار (جورج سميث) الموافقة الى السفر الى العراق، ثم يحصل على موافقة للتنقيب في تلك القرية، من أجل استخراج المزيد من الالواح الطينية ومن ضمنها تلك اللوحة، وبعد أن يشد عدته ويهيأ للسفر فقد أنجز مهمته، تطرأ على (عاصي) وهو واحد من العاملين والمشاركين في التنقيب، فكرة سرقة لوح من تلك الألواح لأنه يحس بأنها آثارنا وله الحق في أخذها، فيأخذ لوحة لا على التعيين، ومن محاسن الصدف أن تلك اللوحة التي أخذها، هي ذاتها اللوح المفقود الذي حضر عالم الآثار من أجلها، وفي الطريق واثناء سفر عالم الآثار يموت، وهنا تنتهي مهمته هذا العالم ودوره في هذا النص.
وبعد مرور أكثر من مائة وثلاثين عاماً، أي في القرن الحادي والعشرين، نكون مع الشيخ (سالم) حفيد (عاصي) الذي مر ذكره في مسار هذا المبنى السردي وقد تجاوز عمره المائة عام، وهو يضع لوح الخلود الذي يعود لـ (ملحمة جلجامش) في صرته، المعدة خصيصاً لذلك الرقيم القديم.
ومن هنا تبدأ الانطلاقة الكبرى، تبدأ الأحداث تتدفق، وكأنها ينبوع من الماء يتصاعد من تحت الارض ليغطي كل مساحاتها، وتبدأ خيوط الحكايات تنسج مرتبطة ببعضها متصلة في بؤرة الاحداث، والتي هي اللوح الطيني المهم، فبعد ان ذاع صيت هذا الشيخ وعرف الجميع بأنه استطاع أن يفك طلاسم اللوح من خلال قراءته لكتب عديدة وتعلمه لفك رموز اللغة المسمارية، والذهاب الى مكان نبتة الخلود وإخراجها وأكلها، صار محط اهتمام الجميع، وبدأت المحاولات من المسؤولين الكبار في السلطة، وعلماء الآثار، وطلبة علم الآثار، الحصول على هذا اللوح بكل الوسائل المتاحة التي باءت بالفشل، لإصرار الشيخ (سالم) على المحافظة عليه ويبقى معه والسر الذي لا يمكن البوح فيه.
وهكذا يجد الروائي هونر كريم، فرصة متاحة له من أجل إضافة أحداث كبيرة ومتشعبة، ترتبط بمبنى هذا النص، وأن الفضاء العام يتسع لكم كبير منها، إذا كانت تصب في نفس الرافد ولا تحيد عن مساره، فننشغل بمحيط تلك الاحداث، حيث نكون مع شهاب الدين الذي يحاول الحصول على الرقم الطيني، بعد أن عرف ذلك من أحد أعوانه، وكذلك نكون مع الأستاذ أنور الذي تحول همه الوحيد عن كيفية الحصول على هذا الرقم، ونكون مع كامل وهو طالب في علم الآثار يعد اطروحة تخرجه عن ملحمة (جلجامش) والتي يدخل هذا اللوح ضمن اهتمامه، وتتفرع فروع تلك الأحداث ليظهر الى الساحة (آكوب) وهو صديق كامل الحميم، وسوف يكون له دور ضمن مسار المبنى السردي، وهكذا ندخل في تلك المتاهة المشوقة، ثم تتفرع من تلك أحداث أخرى لها أهميتها في ربط الاحداث ببعضها، وأهمها عندما يتلقى أستاذ انور تهديد بالقتل مجهول الهوية، إذا ما ترك العمل في الكلية وغادر البلاد، فيحكي للطالب كامل حكايته وخوفه من هذا التهديد، ويقترح عليه بأنه يستطيع معرفة الشخص الذي هدده من خلال عراف، ذاع صيته وعرف بصدق نبوءاته، فينصاع استاذ أنوار لرأيه وهي محاولة لا بأس بها، وبالفعل يذهب كامل الى العراف الذي دله عليه صديقه(آكوب)، ومن خلال العرّاف يتعرف على شخصيته المهدد وهو الطالب حسان الذي ترك الدراسة، والتحق بجهات مجهولة تقوم بأعمال تخريبية في البلد، وبعد أن ينتهي كامل من مهمته وقبل أن يغادر بيت العراف يرى قلادة فيها تعويذة باللغة المسمارية.
(اندهش العرّاف عندما سمع كامل يقرأ ما مكتوب في تلك القلادة. سأله باستغراب
- كيف استطعت أن تقرأ تلك التعويذة؟
انفتحت أسارير كامل وكشف له هويته: - أنا طالب في علم الآثار وعندي بعض الالمام بالحروف المسمارية. ولكن من أين لك هذا الرقيم الصغير؟
- انها تعويذة قديمة.
هل يمكن لي أن أحصل على واحدة منها؟
تفَّرس العرّاف الكهل في وجه كامل لبرهة وكأنه يقرأ طالعه ثم تردّد: - أنك ستحتاجها. وإذا ما حملتها سترى الموت والحياة في آن واحد. ص 107
وهكذا حصل كامل على التعويذة التي ستكون لها شأن كبير في دورة الاحداث المتراكبة التي أنا بصدد استعراضها للوقوف على سياقها الفني، وسأكون معها من أجل إظهار البناء الفني لها، فبعد أن يسافر كامل من بغداد الى محافظة نينوى ويتعرض في الطريق الى اعتقال كاد يودي بحياته وينجو بإعجوبة يصل الى بيت الشيخ (سالم) فلم يعثر عليه كونه هرب من مضايقة شهاب الدين، الذي يحاول الحصول على اللوح الطيني، فيعود أدراجه الى بغداد وفي الطريق المحفوف بالمخاطر يصادف سيطرة وهمية لجماعة ملثمين، فيترجل هو ومن معه من المركبة وتتعرف تلك الجماعة على كامل كونه كان مع الجماعة الذين اقنعوهم بأخذ رأس الميت في الجنازة الى الامير بدلاً من قتلهم، وتعرضوا للإهانة من قبل الامير كونه عرف بأن الرأس هو لشخص ميت اساساً، فيعتقلوه وحده ويتركون الباقين يرحلون، ويعدوا كاميرا التصوير من أجل نقل عملية فصل الرأس عن الجسد، ويقومون بالفعل بقطع رأس كامل:
( أنزل رأس كامل للأسفل الذي أخذ يقاوم بشدة ويتملص من يديه، يصرخ وينادي يطلب منه التوقف ويترجاه، لم يفد معه الكلام ارتجفت اوصاله كلها، رفع السيّاف سيفه المسلول عالياً، بلمحة البصر قطع رأس كامل وحمله بيده عالياً، ووقع الجسد أرضاً يرفس في مكانه، يخر دماً متدفقاً من شرايين عنقه) ص 164
وهكذا ننتقل الى الفنتازيا العالية، كون أن التعويذة، تعمل فتضيء وتحرك الجسد، فيفتش عن الرأس امامه وعلى جانبيه، فلم يجد الا رأس ثور كان ملقي على الارض، فيضطر الى تركيبه على رقبته وسرعان ما يلتصق هذا الرأس مع الجسد، فيصبح ذا قوة مضاعفة، فيدور صراع بينه وبين هؤلاء الرجال ويستطيع ارداهما قتلا، ويأخذ الرأس بيده، ولا يعرف كيف يعيده بدلا من رأس الثور المركب، فيضطر الى حمله والعودة الى قرية الشيخ (سالم) الذي يجده داخل غار وقد هجموا عليه مجموعة مسلحة من قبل شهاب الدين فيموت في الحال وتستولي تلك الجماعة على اللوح ويرحلوا، وينقل هو الجثمان الى بيت الشيخ سالم وتدور احداث كبيرة متراكبة ولا يسع الوقت للدخول في تفاصيلها، يذهب الى بغداد لغرض الوصول الى الاستاذ انور الذي يجده مختطفاً من قبل شهاب الدين لغرض قراءة اللوح، وينقذه ويذهب معه الى دكتور له دراية في امور اعادة الرأس، الا أن الدكتور يعتذر، كون الرأس مضى عليه وقت ولا يصلح، ويذهب للعرّاف الذي يطلب منه أن ينتظر ليوم غد من اجل ايجاد عشبة تعيد له رأسه، فتختبئ وسط الادخال ويفتش عن حطب يابس من اجل اشعاله والتدفء عليه، وتحدث الكارثة، حيث يعود الى مكانه فلم يجد الرأس ويجد حية كبيرة قد التهمته، فينزلق الى الماء لملاحقتها من اجل استرجاع رأسه المذبوح.
وهكذا تنتهي الاحداث التي لم الاحق الا جزء يسير من تفاصيلها، وتتضح قدرة الروائي في شبك الاحداث وترابطها من اجل ان تكون كتلة واحدة.