عبد الملك نوري ما أنصف نفسه وما بحث عن الإنصاف لدى الآخرين

شكيب كاظم

مساء الإثنين ١٤ من أيلول/ سبتمبر/١٩٩٨،حضرت جلسة الاستذكار والتأبين التي أقامها اتحاد الأدباء بمنطقة العلوية، في حديقته الغناء، لمناسبة أربعينية القاص العراقي الرائد عبد الملك (عبد اللطيف) نوري، أدارها الناقد عبد الجبار داود البصري (توفي ٢٠٠٢)، والقى الناقد الدكتور شجاع مسلم العاني ملخص بحث عن الراحل الكبير، تلاه الباحث يحيى الكبيسي؛ الذي كنت أتوسم فيه مشروع باحث وناقد عزّ نظيره ومثيله، لكن ها هي السياسة والفضائيات تأخذه من الفضاء الذي خلق له، تلاه الناقد والأستاذ الجامعي الدكتور عبد الإله أحمد (٢٠٠٧) الذي أشعلت غضبه ملاحظة بسيطة فاه بها الكبيسي! ليكون هاتف عبد اللطيف الثلج مسك ختام تلك الجلسة النقدية الثقافية.
يعد عبد الملك نوري من الجيل الذي جاء بعد جيل الرواد، ممثلاً بمحمود أحمد السيد (١٩٣٧) وذي النون أيوب (١٩٨٨) وجعفر الخليلي (١٩٨٥) وعبد الحق فاضل، وعبد المجيد لطفي ( ١٩٩٢)، وإذ غلب الروح الإجتماعي السياسي الذي ينعته الناقد العاني بـ( الوظيفي) القريب من أفكار أليسار، على توجهات غالب ألادباء وكتاب القصة في العراق، فضلاً عن توجهات وتطلعات وجودية، متأثرين بأفكار سارتر(١٩٨٠) وكامو (١٩٦٠) ،الوجودية التي انطفأت من وجدان المثقفين العرب- إثر الزيارة الاستقصائية التي قام بها سارتر ورهط من مريديه للجمهورية العربية المتحدة، سنة ١٩٦٦ بغية دراسة الصراع العربي- الإسرائيلي على الطبيعة، ولقاءاته الواسعة مع مثقفي مصر ولقائه مع الرئيس جمال عبد الناصر (١٩٧٠) وأعلن فيما بعد رأيه السلبي إزاء قضية العرب المركزية، هذا الموقف– كما أرى– أطفأ وهج الوجودية في ضمير مثقفي العراق والوطن العربي–.
أقول: ظل التوجه اليساري فضلا عن تأثيرات وجودية هي التي تتحكم ببوصلة الأدباء وكتاب القصة، منذ رائدهم الأول محمود أحمد السيد، وظل ذو النون أيوب يكتب القصة المقالية، التي كان هدفه من كتابتها نشر أفكاره السياسية، من غير اهتمام بفنية القصة وبنائها، الأمر الذي دفع بعبد الملك نوري إلى أن يطلق عليها وصف (المقاصة)؛ أي القصة المقالية، أو المقال القصصي.
وإذ يأتي جيل جديد معبأ أيضا بالأفكار السياسية، لكنه جعل للفن مكانة في هذا اللون الأدبي، فما عادت القصة المقالية مقبولة لدى الموهوب الشامل؛ الخطاط والنحات والرسام والقصاص يحيى جواد (١٩٨٨) أو محمد روزنامجي (؟!) أو عبد الصمد خانقاه (؟!) أو نزار عباس، اويحيى عبد المجيد (جيان)، والأمر ينسحب على قاصنا عبد الملك،الذي على الرغم من شغفه بمهمة التوصيل والتوعية؛ توعية الناس، وتوقه إلى الواقعية الإنتقادية أو الإشتراكية،لكن قراءاته المعمقة في الأدب الروسي القيصري، ولا سيما روايات ديستويفسكي، فضلا عن جيمس جويس وروايته ( يوليسيس) وسارتر وكامو في ( الغريب) وتأثره بفن تيار الوعي، والاسترجاع والمنولوك الداخلي،الذي جاء به جويس،والبريطانية فرجينيا وولف (١٩٤١)،كما تركت أراء فرويد في التحليل النفسي آثارها على قصصه، ليقترب من المنهج النفسي تسعفه في ذلك لغة إنكليزية جيدة، حتى أنه كتب بها بعض قصصه،فضلا عن التجويد في الكتابة،على الرغم من وقوعه في هنات وأخطاء لغوية وصرفية.مثل يجرؤ يكتبها يجرأ، أو وطىء يطأ يكتبها وطأ!
لقد انعقدت أصرة صداقة طيبة بين فؤاد التكرلي (٢٠٠٨) وشقيقه الناقد الرائد نهاد، الذي شهدت أواخر الأربعينات وحتى منتصف خمسينات القرن العشرين، جهوده البحثية والنقدية على صفحات مجلتي ( الأديب) و( الآداب) اللبنانيتين وعدد من المجلات العراقية مثل:( الثقافة الجديدة) و( الكاتب العربي).
أقول: انعقدت اصرة صداقة بين التكرليين فؤاد ونهاد وبين عبد الملك نوري من خلال جماعة الوقت الضائع، إضافة إلى القادم من فلسطين بعد نكبة ١٩٤٨؛ جبرا إبراهيم جبرا (١٩٩٤) ونزار سليم،فكان أحدهما يعرض نتاجه على الآخر بمودة ونزاهة، فقد عرض فؤاد قصته الطويلة المخطوطة ( بصقة في وجه الحياة) التي كتبها سنة ١٩٤٩ في ساعة يأس وإحباط،بسبب ضياع جزء غال من فلسطين،وعقدمعاهدة بورت سموث!واحتفظ بها أكثر من نصف قرن،وليطلق سراحها فتنشرها ( دار المدى) سنة ٢٠٠٢، وثيمة الرواية تقوم على الزنا بالمحارم،مع أن فؤادا لا يقول بهذا التوصيف،ويرى أن الأمر متروك للقارىء والناقد الفاحص، والأمر ينسحب على روايته ( خاتم الرمل) التي تنهل من العقدة الأوديبية، وكذلك إعتداء ( عدنان) على خالته ( منيرة) جنسيا في رواية ( الرجع البعيد) وتأويلات الدارسين بشأن هذه الحالة.
أقول: يعرض فؤاد روايته هذي على عبد الملك،فينصحه أن يعيد كتابتها ويشذبها،وان فيها جملا وتعابير ركيكة،ويستجيب فؤاد لملاحظاته.تنظر ص٧٨ من كتاب ( نزعة الحداثة في القصة العراقية) للدكتور محسن جاسم الموسوي.
والأمر ينسحب على إستخدام الحوار العامي في القصة، وارى أن فؤادا قد سبق عبد الملك في استخدامه، ولا سيما في قصصه الأولى ( العيون الخضر) مثلا أو روايته القصيرة ( الوجه الآخر) ويتفقان على إستخدامه متأثرَيْن بمناهج الواقعية ولا سيما لدى عبد الملك.
وها هو يوجه نصيحته الصادقة إلى غائب طعمة فرمان (١٩٩٠)،ويعترف غائب أن هذه النصائح كانت تبكيه، ففي حوار مع مجلة ( الطريق) اللبنانية الثقافية الفكرية الرائعة؛ العدد الصادر في مايس/ مايو ١٩٧٢ يؤكد غائب»» كان عبد الملك نوري أكثرنا حساسية إزاء هذه الأشياء.كم مرة قال لي: غائب إن الموضوع جيد، ولكن الاسلوب، اللغة.. طريقة التناول.وكنت أحيانا أعود باكيا إلى البيت، اريد ان التقط الأشياء التي تعز على الإلتقاط، ابكي فشلي.. أريد أن أتلمس اخطائي واتحسسها»» المرجع السابق ص ٥٨
وإذ يبدي عبد الملك رأيه في كتابات التكرلي وفرمان، فإن التكرلي وقد رأى شغف عبد الملك بالتجريب ومغادرة أجواء القصة الكلاسيكية،مترسما خطا الكتاب في روسية والغرب محذرا إياه من هذا الجديد قائلا له في إحدى رسائله»» حذار من الجديد، هذا الحلم الرائع البعيد المنال،وحذار من هذه الرغبة الممزقة لأجله. إنه سراب لمن يركض خلفه،وقد يجده من لا يعرفه،يجده في أحد جيوبه المهملة»» المرجع السابق ص٦٠
لقد تعرض عبد الملك لشنأ الشانئين وحسد الحاسدين،فها هو الشاعر كاظم جواد،الشخصية الحادة،الذي ما استطاعت حتى زوجته الشاعرة الفلسطينية سلافة حجاوي،التي استقطبت الاهتمام البالغ لدى مشاركتها في مؤتمر الأدباء الذي عقد في قاعة الخلد بكرادة مريم ببغداد ربيع سنة ١٩٦٩ وحضرت وقائعه، ما استطاعت العيش معه،وليموت في الغربة صيف سنة ١٩٨٤, كاظم جواد يتهمه بالاستفادة من الكاتب الإسباني ليوبولد والاس،في حين يتهمه ( محيي الدين إسماعيل) بأخذ ثيمة قصته ( نشيد الأرض) من ديستويفسكي؛ قصته ( حلم رجل هزأة) «» م.ن الصفحة ٣٩.
لقد نشأ عبد الملك نوري المولود ببغداد سنة ١٩٢١،حياة مرفهة،لا بل أرستقراطية، واضعين في الحسبان أن أباه عبد اللطيف نوري كان ضابطا برتبة عليا في الجيش العراقي،وتولى وزارة الدفاع،وتزوج امرأة كردية تذكرها الطبيبة سانحة أمين زكي كثيرا في مذكراتها، إذ كانت زميلتها في الدراسة المتوسطة،تركته لتحيا في امريكة،لكن هذا الترف ما منعه من الانغماس في حياة الفقراء وتبني فكر اليسار،والكتابة عنهم، الأمر الذي دفع أحدهم للقول إن عبد الملك يكتب عن فلاحي الصين،وهولم يرها حتى في الحلم!
لكن العصف السياسي الذي ضرب العراق، واعفاءه من وظيفته الدبلوماسية في أيام اللواء قاسم،قد دفع به إلى العزلة والاعتكاف في منزله، إلا من زيارات متباعدة من بعض أصدقائه ومنهم مهدي عيسى الصقر (٢٠٠٦) والقاص محمود عبد الوهاب (٢٠١٠) حين يأتي من البصرة
،لكن تمكن هاتف عبد اللطيف الثلج من كسر عزلته، ونشر قصصه غير المنشورة، فبدأ يكتب ولكن بعد فوات الأوان، فقد ضمرت الرغبة وذوت الموهبة، فطول البعاد عن الكتابة والقراءة ترك ظلاله الكابية على فنه القصصي، وإني لأردد ما قاله فؤاد التكرلي في مقدمته لمجموعة أقاصيص ( ذيول الخريف) لعبد الملك نوري، والتي أصدرتها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة ١٩٨٧،ارددقولته»» قبل أيام قلت لعبد الملك، إن ما طبع حياته بشكل أساسي، هو حبه للقصة ولكتابة القصة، كأن هذا الحب كان قدرا مقدرا عليه، تزول أمامه كل التفاصيل الأخرى للحياة.. العائلة والزواج والوظيفة والمال، ويبقى هذا مفسرا للحياة ومانحها المعنى الحقيقي الوحيد.. ومقابل هذا القدر لم يجد متسعا من الوقت لكي ينصف نفسه، أو يفتش عن الإنصاف لدى الآخرين»» الذين ما انصفوه، ونحن من انصفنا كي ننصفه؟!

حاشية
.. …………..
نص الحديث الذي قرأته في ندوة إلاحتفاء بمنجز القاص العراقي الرائد عبد الملك نوري واستذكاره،التي أقامها بيت المدى للثقافة والفنون بشارع المتنبي ببغداد،ضحى يوم الجمعة ٧ من ذي القعدة عام ١٤٣٩ه– الموافق للعشربن من تموز سنة ٢٠١٨،التي أدارها الناقد علي حسن الفواز،وتحدث فيها تباعا كل من: الناقد بشير حاجم،وشكيب كاظم ، الدكتور نجاح هادي كبة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة