الكثير ممن القتهم الاقدار العابثة على مهن الثقافة والسياسة والفكر والاعلام، مصرون على اقتفاء اثر “الشطحات الصوفية” في حفرياتهم عما يجري في العراق من احداث ودقلات وخلطات غرائبية، منها على سبيل المثال لا الحصر (عفوية الاحتجاجات) أي انها اندلعت (وفقاً لحفرياتهم الاركيولوجية) من أغوار الركام الهائل من الظلم والضيم الذي عاشه العراقيون منذ المغفور له كلكامش حتى يومنا هذا، والبعض منهم حلقت به مخيلته المجنحة، الى وضع هذه المأثرة (عفويتها) بمنزلة الزحزحة النوعية في علوم السياسة وقاموس الثورات. وهذا لا يشمل طبعاً “واوية” الانتلجينسيا المدججين بتقنيات “الانحناء أمام العاصفة” ونقل عدتهم وديباجاتهم من كتف الى كتف آخر وفقاً لتغير المعادلات والانواء. انهم يختلفون عن الصنف الاول، بقدراتهم المجربة في الاستشعار عن بعد؛ ولا تجد عندهم هذه القذيفة الدخانية “العفوية” أية أهمية سوى الدور العابر الذي كلفت به؛ التستر على القوى والهجوم الفعلي الذي يعقب مثل تلك القذائف المصنعة خصيصا لمثل هذه المراحل في تاريخ المجتمعات والبلدان والدول.
ان عدم تدارك مثل هذه المسارب والسيناريوهات الخطرة، يعني ترك مصير هذا البلد المنكوب بقراصنة المنعطفات التاريخية والفوضويين واللصوص وسدنة الاجرام، بالانجراف سريعاً صوب نهايات لن ينفع فيها الحسرة والندم. لا توجد في العالم كله تظاهرات لا رأس لها ولا من يمثلها فيما تستهدفه من مطالب، في الوقت الذي نجدها على أرض الواقع تسير وفق مخطط غاية في الدقة والدهاء، حيث يتم التلاعب بجسم الحركة الاساس العاطلين عن العمل وسواق التكتك وحطام ما يسمى بـ “النقابات” وغير ذلك من قوى احتياطية بشكل بعيد كل البعد عن العفوية..!
بعيدا عن هلوسات “الافندية” المسكونون بحلم “الثورة” وعقدة انكساراتهم الشخصية وذواتهم المتورمة واللاهثة وراء اقتناص “بطولة” ما في الوقت الضائع، والتي عكستها سيول اسهالاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وباقي المنابر التي كرست كل مواهبها وما في ترسانتها المهنية من خبرة واختصاصات، كي توسمها بالعفوية والانتفاضة الاستثنائية ورأس رمحها “بروليتاريا التكتك” وغير ذلك من العناوين التي تخفي الجانب الآخر المثقل بالجكسارات وغسيل الاموال والاحياء المرفهة والطفيليين والمنتفعين قبل “التغيير” وبعده، من الذين لم يتأخروا في اعلان بيعتهم للاحتجاجات وضرورة التغيير؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أخذ تصريح صاحب حزب الحل جمال الكربولي في 29/10/2019 كعينة نموذجية لغرائبية هذا المشهد العفوي جداً، يقول في تغريدته: “حكومتنا لم يهتز ضميرها لأنهار الدماء وقوافل الشهداء والجرحى”…!
منذ البدء وفي كل ما اتيح لنا من مجال في الكتابة او اللقاءات عبر الاذاعة والتلفاز، حددنا علل وصول السيد عادل عبد المهدي الى المنصب التنفيذي الاول في البلاد؛ بوصفه علامة واضحة على المازق الذي وصلت اليه العملية السياسية، بعد اجراء اسوأ دورة انتخابية شهدها عراق ما بعد “التغيير”. وما النهاية البائسة التي وصل اليها الا تذكير لما غفل عنه من بديهيات اختصرتها كلمة امام العدل الاجتماعي: “لا أمر لمن لا يطاع”. هذا الخلل البنيوي يستند الى كم هائل من التشرذم يلقي بظلاله الثقيلة على المشهد العراقي، حيث جميع الكتل تتفنن في اعاقة بعضها للبعض الآخر، وبالمقابل لم تنجح الاحتجاجات من الالتفاف على فخ “العفوية” لتشق طريقاً مستقلا وواعدا بعيداً عما ترسمه مطابخ المكر والردة والدهاء…
جمال جصاني