القوى والعقائد والمصالح التي تقبع في قعر اولوياتها أمن العراق ووحدته ووجوده (يرافقهم بوعي أو من دونه جوقة الافندية المسكونون بوهم الثورة)، تدفع بكل ما اوتيت به من قوة ومن عمليات ممنهجة وشيطانية؛ كي ينزلق هذا البلد المستباح الى مهاوي الحرب الاهلية واهوالها، حيث سيصبح فيها كل ما جرى علينا مجرد حدث عابر مقارنة بما سينفتح علينا من كوابيس. لقد حذرنا وبما نمتلكه من امكانات محدودة جداً، من وقوع الاحتجاجات بالمحظور وتحولها الى جسر لتلك المآرب والمخططات التي تنتظر بفارغ الصبر مثل هذا اللحظات من الغضب المجتمعي، لا سيما وان التظاهرات ورغم اشتدادها وتوسع مساحتها ظلت تبدو (شكلياً) وكأنها من دون رأس وهيئة اركان واضحة تقودها الى اهداف معلومة وواقعية تتناسب وامكانيتنا الفعلية على الاصلاح والتغيير. هذا الخلل البنيوي شرع الأبواب امام كل انواع الاجندات المعادية لجوهر المطالب الشعبية في التغيير نحو الافضل، للتسلل الى تلك الاحتجاجات بشكل مباشر أو من خلال الضخ الاعلامي الواسع والمتفنن في دغدغة الغرائز المتدنية للحشود، وتسخير كل ما تمتلكه من خبرة ومكر ودهاء، في تفعيل شبكة علاقاتها مع الحطام الهائل من البشر والقيم والتقاليد والممارسات التي ورثناها من حقب المسخ والعبودية والاستبداد.
لقد اشرت في مقال (محنة النظام الديمقراطي وعزلته) قبل أيام الى خطورة ما ينتظرنا من سيناريوهات، لعدم امتلاك التجربة السياسية لمدافعين حقيقيين عنها، فالطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة (لصوص التجربة) هي اول من سارعت للتخلي عنها، لتضع مصير الوطن والناس فريسة سهلة امام صناع الفوضى ومهندسي الثورات المضادة والحروب الاهلية. كما ان انطلاق التظاهرات قبل موعدها المحدد في 25/10/2019 وهرولة اعداد من المتظاهرين صوب المنطقة الخضراء، مؤشر خطير على المسارب البعيدة عن الحكمة والمسؤولية التي يمكن ان تنجرف اليها هذه الاحتجاجات. لقد شاهدنا كيف سارعت العصابات المسلحة بغض النظر عن العناوين الجميلة التي تمتشقها، كي تنزع عن هذه النشاطات والمطالب العادلة والمشروعة، خصيصتها الحضارية وسر قوتها (سلميتها) لتستلم زمام الامور وبما ينسجم وغاياتها الشرهة والمتنافرة وتطلعات العراقيين للاصلاح الحقيقي في سيادة الدولة والقانون وحصر السلاح بيد المؤسسات المختصة بذلك وفقاً للدستور العراقي.
ان عمليات خلط الاوراق قد وصلت الى مستويات غير مسبوقة، لما يتمتع به المشهد العراقي من تيه وضياع للذاكرة والعبرة والمعايير المجربة، كل هذا ساعد قوى الفوضى والتخريب كي تمرر مفاهيم وافكار مميتة، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ ايهام الحشود بانها قادرة على تحقيق كل ما خسرته طوال أكثر من ألف عام وعام بفزعة واحدة “شلع قلع” من دون الالتفات الى البلاوي التي تنتظرهم على هذا الطريق، حيث لا جدوى من الحسرة والندم بعد “وقوع الفاس بالراس”..
جمال جصاني