التشعب السيمائي في (ماوراء اللغة»

عبد الجبار حيدر

في العدد (4271) نشر الشاعر سوران محمد نصا شعريا بعنوان (ما وراء اللغة) بدأه بموضوع ذاتي قريب الی مفهوم القاريء وهي دال (العاشق) لكن أي نوع من العشق؟ ومن ثم استعارة (العاصفة) وتشبيهما مع البعض باليأس والسکون، ستکون بوابة واسعة للدخول الی شعاب الدلالات المتنوعة والمغارات الخفية التي تظر للعيان لاحقا، دخولا الی أزقات مدينة شعرية بنيت من كلمات شعرية منشطرة، الی زنازين و غروب سرمدي و ثورات خامدة و ما يترتب عليها، لكن هل بمقدور هذا العنوان جمع کل هذه‌ المتناثرات، أم حياة المتناضات بعينها تقوم بهذا الدور؟ أم أن كل هذه الصور الشعرية المجازية لا تبدع لوحة سيمائية(1) خلاقة الا اذا فهمنا مالارمي و عزرا باوند و الاعمال الاخيرة لآرثر رامبو و بعض من أدونيس و غيرهم هنا و هناك….
يقول الناقد (نجاة حميد) في بحث نادر حول أسلوب الشاعر في کتابته للشعر «هو يتمرد علی الاشکال الشعرية المتعارف عليها و ولا يكتفي بأستخدام أسلوب شعري واحد في صياغة أعماله الشعرية»(2).
كما يقول الناقد المحترف الدکتور محمد خرماش حول نتاجات الشاعر و أسلوبه الشعري: «هو لا يقدم مضامينه على طبق من فضة، لكنه يقدم ما يساعد على الإلمام ببعض مقاصده ومراميه، و ترسم إستراتيجية دقيقة في التكوين بإشاراتها الغامزة ونقلاتها المغرية واستعاراتها الحية وإحالاتها التلميحية لجر القارئ إلى عالمها الضبابي أو لتحفيز قدراته القرائية من أجل تفجير مكامن القوة الإبداعية فيها، ولينتج نص قراءته مثلما أنتج الشاعر نص كتابته ، وتلك دائما هي خاصية النصوص الغنية المفتوحة القابلة لتعدد المعاني وتعدد القراءات…»(3)
اذا كيف يستطيع الناقد أن يكتب نقده حول نص حداثي کهذا وهو لايعرف شيئا عن المذهب التحليل النفسي الفرويدي والذي تبناه (لاکان) في الحقل الادبي لاحقا، اضافة الی ذلك المدرسة الشعرية السريالية بريادة الدکتور بريتون الطبيب النفسي الفرنسي، ومن ثم هضمه لأكثر تطلعات الشكلانيين ومن أتی من بعدهم کالبنويين واللغويين و التيارات مابعد الحداثة، مستلهما النظريات الجديدة من آراء سوسير و دريدا و جومسکي و غيرهم..
لقد تطورت الحضارة الحديثة بوتيرة لم يسبق لها المثيل مسبقا، وکذلك لغة القصيدة و أسلوبها و لغتها و مواضيعها کذلك، فهل يستطيع کل شاعر مواکبة العصر بتجديد نفسه و مفرداته الشعرية کي يکون علی مستوی الخطاب الشعري المطلوب و يقدر أن يخلق نصا مبدعا يتميز به عن التيار العام؟
أنا بدوري عندما قرأت نص (ماوراء اللغة) أصابنتي هذه اللغة الفنية المتميزة والتقنية النادرة بالدهشة و الذهول، فوقفت ساكنا أمام فهم العنوان أولا وسألت نفسي ماهو اللغز أو الالغاز المکنونة في طي العنوان و وراء مفردة (اللغة) ذاتها لعنوان هذا الشعر؟ هل هي لغة خفية تظهر شيئا فشيئا عندما استعبنا المضمون؟ أم ان هذا المضمون المتعدد والمتنوع الدلالات مکسو بكساء لغة فضفاضة بحيث تنشطر الكلمات في کل سطر الی أكثر من دلالة وتبقی لغة حيا الی ان ينتهي دورنا من جمع كل الاستنباطات المحتملة من النص؟ وقد سمی(رولان بارث) هذه المرحلة الاخيرة من القراءات بمتعة التعب عند استکشاف المستور في النص.(4)
ان هنالك أشياء و ظواهر قد تحدث من حولنا وفي الكون الواسع ، خاصة في ثنايا دنيا الماوراء الطبيعة (الميتافيزقيا) ستبقی اللغة عاجزة عن التعبير عنها والاحاطة بها کما هي في الواقع أو کما يجب أن يکون، والاكتفاء بقراءة واحدة و تفسير واحد لنص مفتوح كهذا تکون اجحافا بحقه، حقا انها صعبة التعامل مع نص من هذا القبيل النابض بالحياة والحيوية مما يشل حرکة القاريء أثناء التأمل والتمعن و يجعله يشعر بالقشعريرة أثناء المرور علی بعض صورها الصامتة المشوبة بالحذر وعلامات الاستفهام و الأسئلة المتعددة في أكثر السطور.
و نتيجة لکل هذه الاستنتاجات ومن البديهي بما أن هذا النوع من النصوص الادبية يخاطب نخبة القراء، فمن السهل أن ينظر القاريء ذو ميول کلاسيکية أو ذو مستوی متدني من المعرفة الشعرية الی هذا النمط الشعري کهراء أو أضغاث أحلام لأنه لم يتعود علی قراءتها و لا يخاطب ذوقه و لايتناسب مع خلفيته الثقافية، هنا سيأتي دور الناقد المنتج للنص من خلال قدراته القرائية والقيام بتعرف القراء علی سحر هذا النوع من النصوص و كيفية التعامل معه أثناء قراءته.

الهوامش والمصادر
……………………….
(1)علم العلامات (السميوطيقا) علم يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز.
(2) التجربة الشعرية المتميزة، سنة 2018، ص 180.
.(3) قصائد اللقالق المهاجرة، سنة الطبع 2014
(4) The pleasure of the text, Rolan Barthes, R. Miller

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة