ثوار المنافي

لا أتحدث عمن نظم تظاهرات رفعت علم النظام المباد في اميركا واستراليا، وعدد من بلدان الغرب، بدعوى التضامن مع الاحتجاجات الاخيرة في بغداد وعدد من المدن العراقية، فهؤلاء سيرتهم واحلامهم في استرداد الفردوس المفقود معروفة (فلول وواجهات النظام المباد). موضوعنا اليوم يتعلق بعدد غير قليل ممن يتوهم نفسه قد ولد اساسا لصناعة الثورات والانتفاضات عن بعد، أي من منافيهم المخملية وعبر الطرق الغاضب على لوح الكيبورد للترويج عما تبقى له من سكراب الأوهام الثوروية. اعرف الكثير منهم شخصياً، واعرف قدراته الفعلية والبون الشاسع بين ما يدعيه ويتبجح به، وفعله وسلوكه على أرض الواقع، عندما رمتنا الظروف القاهرة الى المنافي طوال ربع قر ن (1979-2003) اكتشفنا حجم التعفن الذي تغلغل الى قسم كبير من هذه الشريحة، وما افرزته شروط المنفى والهزائم المتتالية من اثار وخيمة على نفسية وذهنية الكثير منهم. اعداد كبيرة منهم قد اختارت أو اضطرت للهجرة الى حيث المنافي البعيدة، حيث استقروا هناك بعد أن يأسوا من امكانية تغيير النظام، وبعد زواله المفاجئ عبر المشرط الخارجي، لم تفكر الغالبية منهم في العودة للوطن الام، لاسباب ودوافع تختلف من جماعة الى اخرى، لكن الجماعة التي اشرنا لها والمسكونة بوهم (انها ولدت من أجل الثورة في كل زمان ومكان) بررت عدم عودتها بعد زوال النظام المباد؛ بتبرير يعجز تروتسكي بجلال قدره في مجال “الثورة الدائمة” من فك طلاسمه، الا وهو اننا لن نعود لوطن محتل..!

من منافيهم البعيدة يطلقون صرخاتهم في العالم الافتراضي، ودعواتهم التحريضية الى شريحة الشباب التي ضاقت ذرعا، بسلوك وممارسات وسياسات أحدى اكثر الطبقات السياسية فشلا وفسادا في تاريخ العراق الحديث. من دون أدنى وجع من عقل أو ضمير، يدعونهم لمواصلة “الثورة” حتى اهدافها النهائية في اسقاط النظام الحالي، وتحقيق ما هجروه وتركوه لمصيره منذ عقود. هكذا وبكل استخفاف بابسط شروط ومستلزمات وبديهيات هذا المفهوم (الثورة) يقامرون بمصير الوطن وحياة المحتجين الحقيقيين وتطلعاتهم المشروعة، ليعودوا بعدها لمواصلة حياتهم بعيدا عن عواقب وتداعيات ما سيحدث في الاندفاع الى تلك المسارب الخطرة والبعيدة عن الحكمة والمسؤولية. ان لم تجدوا لديكم ما ينفع محاولات شريحة الشباب لانتزاع حقوقهم الدستورية المهدورة، فاكرموهم بصمتكم وسيكونون ممتنين لكم ومتفهمين لظروفكم الشخصية والنفسية الصعبة والمتأرجحة بين رذيلتي “لو طخه لو طلع مخه”.

لا يتسع المقال لفرصة التطرق لالف باء الثورات، لكننا نلفت انتباهكم الى ان قوى الاحتجاج المشروع لم تتمكن حتى هذه اللحظة من صيانة وتطوير نشاطها هذا، الى مستوى يكون فيه بمأن عن القوى والمصالح والجماعات التي تتربص به مع كل موجة جديدة من الغضب الشعبي المتصاعد ضد شراهة وفساد وضيق افق الطبقة التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير”. الجيل الجديد من العراقيين والذي تركتموه نهباً لهذيانات قوى وجماعات القرن السابع الهجري، لا يحتاج لمثل هذه العنتريات الفارغة، والتي تحجب عنه فرصة اكتساب الخبرة والوعي بطبيعة الصراع وحاجاته الواقعية. نعم لدينا من الاستياء والتذمر والغضب والتشرذم والثارات الصدئة والأحقاد، والمدجج بكل انواع الاسلحة والمتفجرات وضيق الافق؛ ما بمقدوره تقويض وسحق كل ما يقف امامه، لكنها ستكون كل شيء الا ما ترقعونه في مخيلاتكم المعطوبة (الثورة) فهي ترف لا يحتاجه العراقيون في محنتهم الراهنة…   

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة