عبد الغني عطية
عندما قرأت قصيدة (أرواح صغيرة) للشاعر سوران محمد أنتابتني الشكوك حول موضوع النص/الثيمة، هل هي سياسية أم غير ذلك، بما انه تزامنا مع عنوان الشعر کتب: قصيدة سياسية، فراجعت قراءتها مرات تلو الاخری، کي أتأكد من درجة فهمي لها، أم انه خطأ حصل أثناء الكتابة، ولم لا؟ فمنذ الوهلة الاولی لا يحس القاريء بأي اشارة مباشرة تأخذ بيده و يطرق معه ابواب السياسة النتنة و مجرياتها و واقعها المأساوي وما يترتب عليها في يومنا هذا من المآسي والتشرد والتقتيل، بحيث لا يخفی علی القاصي والداني مساويء السياسيين و ما يقومون بها من الابادة والاهانة والتهدير وتخلف الشعوب بناء عليه، ولو وضعت أصبعك علی أي بقعة لخريطـة عالمنا العربي لتجد فيها الاجندات تعيد نفسها لكن بوجوه مختلفة و اسماء أخری، و كل ما يحدث هنا وهناك يمكن أن يكون موضوعا حيويا و حديثا لمضمون نص جيد، وغالبا يتوقع القراء العصري من الشعر أن يکون أداة مناهضة لأعوجاج المتهورين الذين سموا أنفسهم السياسيين والقادة باستعمال لغة سهلة و عاطفية، وفي نفس الوقت أخذت في بالي ان وظيفة الشعر لا تقتصر علی نفخ الحماسة فينا وتجييش القراء ضد ظاهرة معينة لو اراد النص البقاء والمقاومة ضد النسيان والتهميش، ثم بدا لي شيئا فشيئا صحة تصنيفها سياسية، و تيقنت ان هذه القصيدة سياسة بحتة اذا استطاع القاريء کشف المستور ما وراء الرموز والحبکة التي تحتويها الصور الشعرية الکونية فيها، أي بمعنی آخر ان خطاب الشعر يصلح ان يکون لكل زمان ومكان مادام فيها ظاهرة الجور وحكام الجهل والفساد، الذين لا يراعون الضعفاء، يطحنوهم وهم يزعمون انهم يناضلون من اجلهم، يحرمون السواد الاعظم من حقوقهم وهم يرفعون شعار العدالة والمساوات.
الميزة الرئيسية التي تتميز بها هذه القصائد هي وجود اسلوب آخر للتعبير غير الذي عاودناه اثناء قراءاتنا لكثير من الاشعار، الا وهي جعل الصراعات عاما وموضوعيا وکونيا بدلا من حصره في زاوية محددة بالاسماء والاماكن والاوقات المعينة، اذ ان الضعف والقوة هما مضادان ونتيجتان للصراعات في آن معا، لكن كيف نستطيع استعادة القوة للضيف کي يسترد عافيته و يكون متوازيا ومتساويا مع الذي شرده وجوعه وکسر اضلاعه الا من خلال زاوية فنتازيا الشاعر الذي يدور في الكون ويستعير المفردات الخفية ثم يصنع منها مادة لصور متجددة ومغايرة للتي نلتمسها ونراها في واقعنا اليومي.
يتجول الشاعر في الكون الشاسع، ينظر عاليا ويختار وظيفة (السحب) من الطبيعة كي يقرب فکرته الی اذهاننا ويرسم لنا لوحة سريالية تعبر من خلالها البون الشاسع بين هارمونيا الطبيعة ومدی خطورة انحراف الانسان علی هذا الخط ان سلك طريق الطغيان، بحيث يصبح كل شيء داخل هذا العالم المظلم معاکسا للطبيعة او شبيها بکابوس يجلب الاشمئزاز والسخرية والاستهزاء معا ولو ان هنالك من يعانون و يموتون حقا علی أرض الواقع الا ان القتلة لا يتوقفون عن سهرهم وسمرهم و ضحكهم، حينئذ يتوقف الشاعر عن الغناء لعشق ليلی، ولا ينتظر منه القاريء ان يكون جوقة لأوكسترا الحرب والابادة في سبيل ادامة حياة الاستبداد والظلم الواقع علی أكثرية الشعب الذين سحقوا سحقا بطريقة أو بأخری، مباشرة أو غير مباشرة، جسميا أو نفسيا، فرديا أو جماعيا، لذا يحاول الشاعر ان يقول لنا عن طريق هذا النص يا أيها القاريء العزيز لا تنتظر مني ان اكذب مع نفسي واحشر نفسي مع الاکثرية و انسی معاناتكم فانا المسيح المضحي من اجلكم ولو لا انكم تشعرون به، فلا مفر من محاسبة النفس ان جهلت نفسي و بعت ضميري بثمن بخس.
لو اردنا توضيح أكثر لهذا المعنی الذي ذکرناه آنفا، نتمكن من كشفه عن طريق فهم استعارة الشاعر للصور الكونية و توظيفها في قصيدته، اذ ان السحب في الطبيعة تمطر مطرا أو ماءا نشربه فيما بعد و له لون معين، ولو ان البعض يقولون ان لون الماء يتغير بتغير الاشياء الذي حوله، فمثلا تری ان لون ماء البحر أزرقا ارتدادا للون السماء، الا ان لونه هنا في هذا النص اسود، لأنعکاس لون الظلمة و الاحزان الناجم عن قوة الغطرسة، ولو ان الشاعر ما أطال في حيثيات ووصف مصدر المآسي الا انه استعمل الاتجاه الفوقي تعبيرا للسلطة، بما ان السحب في الطبيعة تمر وتمطر من السماء عالية مطرا تزهوا به الازهار والحياة المتنوعة علی وجه الخليقة، الا ان هذه الغيمة اللئيمة الكدرة التي تمطر من علی علو کرسي القصر لا تبشر بالخير ولا تنبت منها سوی أرواح صغيرة وضعيفة کأرواح الفراشة أو النحلة أو الدودة، ولا تستطيع مقاومة الظلم والاستبداد، اذ انها ترمز للطبقة الكادحة المقهورة، التي ليست بيدها حيلة الا الموت البطيء المأساوي، ولو يطلب من الشاعر ان ينسی كل ذلك و يغوض في النظريات ولو بخداع النفس الا ان سلطة هذا الواقع المأساوي تحرك الشاعر من الداخل لتکوين قصيدة تناسب و تستحق حجم الكوارث والخسائر في زمن لا يلقي القاريء بالا الی خلفية الشظون و ما وراء الاحداث الذي يحدث من حوله، ومرة أخری ينهي الشاعر نصه بصيرورة دوامة الصراعات ونزول هذا السواد من علی کرسي العرش علی قصائد الشاعر كذلك بدلا من الرأفة والرحمة والتسامح الموجود في الصورة الکبيرة کونيا، وهكذا يتألم الشاعر کالعصفور الضعيف التائه الواقع تحت سياط العذاب، دون مخرج ومأوى الی ان تسطع شمس حقيقية تنير دهاليز الجهل والحرمان، حينئذ يبتسم الشاعر مع آخر وردة متفتحة التي ترجع للحياة معناها الحقيقي، لكن لا تنسوا ان ما نعايشه هو حلم مر لا خلاص منه الا بالمثابرة والجد والنهوض.