«آلهة من دخان» للروائي «احمد الجنديل»
د.عمار إبراهيم الياسري
شهدت الرواية الحديثة مطلع القرن المنصرم تحولات بنيوية كبيرة في بنيتها السردية، والمتابع لروايات مثل (السيدة دالاوي) للروائية الانكليزية (فرجينيا ولف) و(عوليس) للروائي (جيمس جويس) يلحظ سيطرة نسق التداعي الحر الذي اشتغل على الحفر في جوانيات الشخصية مبرزا الإرهاصات النفسية والخواء الروحي الذي تعاني منه بسبب التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في وقتها، ومع نشوء طروحات المدرسة الشكلانية التي اهتمت بأدبية النص تبلور الاهتمام بالمبنى السردي الذي يشتغل على هندسة المعمار السردي حتى بتنا نسمع بتنوع الأنساق السردية مثل السرد المتناوب والمتوازي والدائري والمتداخل والتكراري التي اشتغلت على تفعيل ساردية المتلقي في لملة الأحداث وملء الفجوات النصية.
يعد المتكرر السردي أحد الأنساق السردية التي يلجأ لها صانعو النصوص من اجل ضرورات فنية ولمسات جمالية تعطي للنص فرادة وتميز في إنتاج معان مغيبة من جهة وتفعل وعي المتلقي على وفق حمولاته المعرفية في تبني احد التكرارات أو ترتيبها زمنيا أو فلسفيا من جهة أخرى، إذ يعمد الروائي إلى رواية حدث ما مرات متعددة من خلال صوت واحد أو أصوات متعددة عن طريق التواتر في الوحدات السردية.
ولو تابعنا رواية (آلهة من دخان) للروائي (احمد الجنديل) نلحظ تعددية الأصوات السردية في بنية الحدث، فالمتن الحكائي للرواية ينهض على بنية سلطوية تمثلت من خلال نسقين، الأول نسق المشيخة الدينية المتوارثة ذات الطابع المزيف، فالشخصية الأولى هي شخصية (سلمان) الذي استطاع التزلف والتقرب من رجل الدين المسيطر على وعي المدينة ليكون من حاشيته ثم يستخدم دهائه للوصول إلى المشيخة الدينية التي ورثها ابنه (عيسى) بعد موته، ليرثها بعد ذلك الحفيد (مصطفى) بعد وفاة أبيه (عيسى)، والنسق الثاني للتسلط تمثل من خلال حاكم المدينة (جلال سيف الحق) الذي حاول تقويض التسلط الديني المسيطر على وعي العامة، قبالة هذين النسقين المسيطرين هناك نسق ثوري يحاول خلخة المركز وتقويضه، وقد تمثل من خلال نسقين، الأول توعوي وعظي تمثل بالشيخ الحكيم الذي يعمل على تعرية الفساد الديني والسياسي من خلال خطب الجمعة، والثاني ثوري حركي تمثل من خلال شخصية (وليد الجواد) الذي يسعى إلى تحرير العقول من الولاءات العمياء بواسطة حراكه الاجتماعي، وقد ارتبطت مع الأنساق الأربعة شخصيات عدة مثل (لميعة) و(فهد الهزاع) و(زاهدة) و(عبد الرحمن البصير)، في حين اشتغل المبنى الحكائي على تقانة النسق التكراري، إذ عمد الروائي إلى محورين رئيسين، الأول قسم من خلاله الوحدات السردية (الحوافز) على شخصيات الرواية، فكل شخصية تروي وجودها البنيوي في بنية السرد المتشكل من خلال دورها في نمو الأحداث من جهة ومنظومتها العلائقية مع الشخصيات من جهة أخرى، والمحور الثاني تعددت من خلاله الأصوات السردية في وصف الأحداث والشخصيات على وفق حمولاتها الفكرية، ومن خلال المحورين تنشط ساردية المتلقي في لملمة الأحداث وملء الفجوات مع اختيار الأحداث المروية التي تتفق مع حمولاته الفكرية من جهة وتتسق مع الحمولات الفكرية للذات الساردة من جهة أخرى.
إن معمارية السرد في الرواية وظفت الأنساق والمحاور التي تم ذكرها من خلال ستة أصوات متنوعة منها ما هو متسق ومنها ما هو متنافر، شكلت بتنوعها بنية المتكرر في الرواية، وقد تجسدت تحت عنوانات متنوعة هي (مصطفى يودع أباه) و(زاهدة البرهان تحفر في جدار الماضي) و(لميعة تندب حظها العاثر) و(جلال سيف الحق يجلد ذاته) و(ما رواه فهد الهزاع) و(مكابدات عبد الرحمن البصير)، ومن خلال قراءة أولى نلحظ أن النسق الديني المزيف تمثل على شكل صوتين هما (مصطفى) و(زاهدة) والنسق الصالح تمثل على شكل صوتين هما (لميعة) و(عبد الرحمن البصير) والنسق الحكومي تمثل على شكل صوت (جلال سيف الحق)، في حين وظف الروائي صوت (فهد الهزاع) بشكل مزدوج فهو الزوج المطيع لـ (زاهدة) بنت المشيخة الدينية من جهة والجاسوس لدى الحاكم من جهة أخرى، ولو تابعنا الصوت الأول (مصطفى) نلحظ أن الفضاء الزمني للقص تجسد مع وفاة أبيه (عيسى)، أي منتصف زمن الحكاية، وقد وصف أباه في تداعياته كما نقرأ في الصفحة السابعة «ليس لأحد الحق في التطاول على مكانة شيخي المغفور له، إنها من استحقاقي فأنا ابنه البار الذي لقنه أصول الدين وفروعه، وشحن قلبي بوهج الإيمان»، من خلال الحوار الوارد في مطلع الرواية ندرك أننا قبالة شخصية دينية ورعة كشف أبعادها الدرامية الابن (مصطفى)، والحال ذاته تكرر مع الصوت الثاني المنضوي تحت نسق التسلط الديني (زاهدة) التي وصفت لنا أخيها الشيخ (عيسى) في الصفحة الخامسة والستين «بعد عدة أيام انتقلت روح أخي الشيخ عيسى البرهان إلى عليين، وبقيت أعاني وحدي من رهبة الامتحان»، في حين اختلفت حكاية الشيخ (عيسى البرهان) من خلال صوت النسق الحكومي (جلال سيف الحق) حينما كرر الحكاية، فقد عمد إلى كشف المسكوت عنه في بنية الشخصية كما نقرأ في الصفحة الثالثة والتسعين «أشعر بالمرارة عندما أجد نفسي في ميدان المنازلة مع هذا الصعلوك القادم من مرابض الغنم المدعو عيسى البرهان» لكنه لا يستطيع الجهر بهذه الحقيقة بسبب الأعداد الكبيرة من المناصرين الموالين له، قبالة نسق التسلط الديني نلحظ أن بنية التكرار وظفت مع النسق الحكومي المتمثل بالحاكم (جلال سيف الحق)، إذ جعل الروائي الذات القارئة مشغلا سرديا يتفاعل مع التكرارات لينتقي ما يتوافق مع حمولاتها الفكرية من جهة أو لترسيخ المعنى من جهة أخرى، فالحاكم على رأي الصوت الديني هو منافق متجرد من الضمير والأخلاق كما تصفه (زاهدة) أو ثعلب مراوغ كما يصفه الشيخ (مصطفى)، في حين ذكر (وليد الجواد) مقتل الحاكم بشكل موضوعي دون شتيمة أو تشفي، بينما ذكر الحاكم السيرة الإصلاحية الموروثة من الأب العادل صاحب منهج الإصلاح والشفافية.
اتسعت بنية التكرار لتشمل الصوت المعتدل (لميعة) التي كانت بؤرة النص العميقة فهي زوجة الجد من جهة والمولعة بالخطابات الإشراقية للشيخ الحكيم من جهة أخرى، وقد وظف الروائي هذا الصوت من اجل ترسيخ قيم الصدق والعدل والسلام للوصول بالذات القارئة إلى مفهوم التطهير، فمن عتبة الرواية التي جعلت (الآلهة/الأصوات) تتلاشى أمام (لميعة) وصولا إلى صوت (زاهدة) و(فهد الهزاع) لم تشوه صورتها الناصعة، بل جعل منها الروائي البطل النيتشوي القادر على تفكيك المركزيات السلطوية ذات القيم المتهرئة.
رواية (آلهة من دخان) لم تكتف بكشف زيف القيم الزائفة التي أنتجتها السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية الموبوءة، بل انفتحت على طروحات الحداثة النصية من خلال توظيفها الأصوات المتعددة والنسق التكراري الذي يتطلب من الكاتب معرفة متعالية بالانفلاتات الزمنية وتشظي الأحداث وهذا ما تميز به الروائي (احمد الجنديل).